لطالما أقنعت نفسي مراراً وتكراراً أنني لا أخاف.. ولطالما أخذتني الثقة بنفسي والعالم من حولي لتعلو –أبية- فوق ذلك الشعور الخفي الغامض الذي يغلفك بسياج حديدى من الريبة والاضطراب والقلق ويجعل من التواصل بينك والعالم المحيط ضرباً من المحال.. أو قل من الصعوبة بما يستلزم كثيراً من الجهد والتركيز والقدرة علي ضبط النفس الحبيسة داخل جدران ذلك الشعور الأليم.. داخل أسوار الخوف..!!

زمان، كان الطقس حار جاف صيفاً دفيء ممطر شتاء وكان هناك خريف نستعد خلاله لبرد الشتاء وربيع تزدهر فيه الورود وتُورق أشجار المدينة.. كانت الذروة وقت دخول المدارس وخروجها والذهاب للعمل والعودة منه.. كانت القراءة هُواية والرياضة واجب والأكل مزاج والخروج ويك إند.. كانت السينما فُسحة والنادي مكافأة والصيف إنطلاقة علي شواطيء بيانكي والمنتزة والشتاء قوقعة دراسية بإنتظار العطلة من جديد.. كانت صلة الرحم أساسية والتواصل العائلي أسبوعي وعيادة المريض واجب والعزاء مشاركة والنهار عمل والليل سكون..

 

تقول وأسمعك.. تأمر وأطيعك.. تغضب، أحايلك.. تفرح، أشاركك.. تحزن، أهتم لك وتشقي فأسعدك وأسعد لك.. يكمل بعضنا الآخر.. بيننا حياة.. بحلوها ومرها.. مجرد حياة.. أنت فيها الرجل وأنا كل النساء!!

 

مقهى نائي في ذلك الشارع الضيق المظلم الصغير على ازدحامه برواده.. يخلو المكان من الضجيج والأصوات العالية والضوضاء غير المبررة والتي أمست تغلب علي أغلب مثل تلك الأماكن.. دخان كثيف رمادي داكن يملأ أرجاء المكان ويحول دون الرؤية الواضحة لتفاصيل المكان.. الكل يدخن قتلاً للوقت والملل فى انتظار سيول الأمطار أن تتوقف أو تجف أو تمسي برقاً ورعداً وليلة قاسية أخرى بلا نهاية..

كائن صعب المراس.. طفل في ثياب البالغين.. عنيد بليونة.. عصبي بهدوء.. كاذب بصدق.. خائن بولاء فطري.. تعيس بسعادة وسعيد في شقاء يدمي من حوله ولا يشعر به.. بريء في قصة خيانة دائمة وخائن بثياب الراهب القديس.. هاديء فى ثورة عارمة.. عاقل بتهور.. صبور علي عجالة.. قاس في وداعة.. واضح في غموض.. ضعيف بقوة بادية وقوي بكل الضعف.. جريء بتخاذل ومتخاذل بنبل الفرسان.. متقلب في ثبات واضح.. متواكل بهمة وعزيمة.. جبان بهيبة.. عنيف بكل الرقة.. مؤلم براحة متناهية.. يكره الأحاديث المطولة وجعبته مليئة بالقصص والأساطير والخرافات وكل الحواديت وما تشتهي الأنفس ويفيض.. أكاذيبه عليك تصديقها ففيها منتهى الصراحة والدروس المستفادة.. يعيب عليك التفاصيل وسردها ويدس أنفه بالصغير قبل الكبير.. لا يمل تناقضاته المرهقة وإن سأمها من حوله.. وما يعنيه بالآخرين؟

 

نعيش القصة ونتعايشها.. نحيا تفاصيل أيام تنطوي وساعات طويلة تدق لتصمت وتمضي في صمت.. تمر فصولها شريطاً أسوداً أمام العين الدامعة والقلب الدامي. ونبكي.. تنسال العبرات آهات تشق حنايا الصدر الأجوف.. تبدأ الحكاية لتنتهي وتدوم القصة لتزول.. تضحك الأيام لتبكينا ويسعد القلب ليدميه أبداً لوعه الفراق. وعند الفراق، نبكي.. ونبكي.. وماذا يفيد البكاء؟ وهل يعود الماضي؟ وهل تكون الحياة؟ ولأن لكل بداية نهاية، تبدأ الحكاية لتنتهي ولأن لكل رواية خاتمة، تضع الفصول نهاية.. تروق أو لا تروق.. لا يهم.. فالأصل فيها كلمة فاصلة ونقطة نصل اليها ودوماً سنصل اليها في جميع الأحوال.

 

قالوا لا كرامة في الحب وقالوا أيضاً لا حب بلا كرامة.. تغنوا بكبرياء الحب وتعالوا بها عن الحب  ليتنازلوا عنها أيضاً لأجل الحب.. وبقيت الدائرة المفرغة وظل السؤال الحائر بلا إجابة ودامت الحيرة.. علامة استفهام.. ربما تعجب ودوماَ تساؤل.. ظل الكائن علي عهده.. حب بلا كرامة وكرامة بلا حب!!

 

كبر الأولاد.. انشغل الزوج بأعماله.. أعباء الحياة اليومية تأخذ في التناقص.. الحياة تتسع أمامي ومزيداً من الفراغ.. سنوات العمر الباقية ترحل في صمت هاديء.. جدران المنزل الخاوي تجمعني وحيدة وفراغ قاتل يعتصر أيامي الطويلة، يطفئ الشموع المضيئة ويقتل ساعات عمري الحائرة بدون أليف. منذ قرابة ربع قرن من الزمان، ربما أكثر قليلاً، كان لي هذا القرار المصيري بالتفرغ للبيت والزوج والأولاد.. تركت عملي الذي أحب والمستقبل المهني المرموق البادي في الأفق البعيد بشهادة المحيطين.. حصرت حياتي الاجتماعية المتسعة وقصرت نشاطاتي في إطار المتاح وسط خضم الأعباء المتراكمة.. رضخت طواعية لصوت داخلي وقرار حر بالتفرغ لحياة أسرية واعدة.. زوج شاب في مقتبل العمر وقمة الطموح.. أطفال صغار بحاجة ماسة للرعاية وكثير من الأعباء المنزلية والأسرية والاجتماعية وحياة اتسعت آنذاك أمامي دون قيد أو شرط أو حدود!!

أحدث المقالات

إعلن معنا

  • Thumb

الأكثر قراءة

فيسبوك

إنستجرام