لسنوات طويلة وعقود متتالية، سيطر الرجل وفرض هيمنته التامة علي الكون.. قاد العالم، فكانت الحروب.. غزا الفضاء فخرم الأوزون.. غاص بأعماق البحار فأزعج الكائنات الحية وكذا البشرية من قاطني البسيطة.. أجري التجارب فأفسد فطرة الطبيعة.. حرث الأرض فجرفها.. شيد المباني فاندكت علي ساكنيها.. عالج المرضي فأباد نصفهم.. أرسي العدالة فكانت الجريمة والفوضي وكان الخراب!!

وللحق، معذور ذلك الكائن البري ذو الشعر الكثيف والوجه النحيل والأضلع المفتولة والقلب الجسور والروح المقدامة ويدعي الرجل!! منذ بدء الخليقة ونشأته الأولي، يصول ويجول دون رقيب ولا مانع.. يعيث في الأرض مرحاً وخيلاءً وفساداً دون هدف أو هوية.. يأتي بالوبال بلا رادع.. بالخراب بلا مقابل.. حتي الخير، يأتي به علي جهل منه.. يعيش علي سجيته وما تفرضه شهواته وأهواءه ونحن لا نتجني عليه بل نوليه حقه خيراً وشراً بل وأقل في ذلك العالم الذكوري الذي يغلفنا سياجه الحديدي دون سبب منطقي.. عالم يقوده رجل وتنصاع إليه امرأة دأبت علي ابتلاع أكاذيبه وافتراءاته وقصصه البالية وموضوعاته المملة ومناقشاته السفسطائية ويقنعها بالعكس!! وتصدقه كما صدقته سلفاً وكما تصدقه علي طول الخط.. أوهام يخلقها لها وهالات يحيطها بها ظلالاً سوداء وبالونات هواء تحلق بها بعيداً في سماء الوهم الذي نسجه خياله وابتاعته برغبتها الدفينة في إيجاد أي مخرج والحصول علي شيء.. أي شيء!! وكل شيء ممكن في عالم أحكم الرجل فيه قبضته وأمسك بزمام الأمور ومقاليدها وصنع من نفسه الحاكم والمحكوم.. الجاني والمجني عليه واحتكر به كل الأدوار وكل الأشكال وكل الصور.

قديماً قالوا «قالوا لفرعون إيه فرعنك؟» والبقية تدركها حواء جيداً.. حقيقة تعلمها كل العلم وتتجاهل دورها الفعال في ترسيخها.. لم يجد أمامه من يوقفه، فانبري يعبث.. ومن خراب لدمار شامل لعالم يحكمه فقط قانون ذكوري وأحكام عرفية فرضتها سيطرته المطلقة علي عقارب الكون من حوله والنهاية الحتمية.. أجيال تدفع الثمن الباهظ لهيمنة آدم وأبنائه من بعده وسيطرة جنس الذكور علي عالم لا يستقيم دون عدالة في توزيع الأدوار. ولأنه رجل، ليس من الطبيعي أن يخطيء فهو ربان السفينة الواعي وقلبها النابض وعقلها المدبر.. يري الحقيقة كما يجب أن تكون.. يرسم الصورة كما ينبغي أن تأتي ألوانها وخطوطها ويعزف اللحن كما ينبغي للسيمفونية أن تكتمل بعنجهيته الفارغة وقصصه الخاوية وأكاذيبه البلهاء. ولأنه رجل، لا يكذب.. ولم المواراة ولا رقيب ولا عدالة أمامه تحاسبه. ولأنه رجل، يستبيح الجزء والكل وكل الأشياء.. يأتي بالفعل وردته.. يبدأ القصة وينهيها.. يعزف المقطوعة نشازاً وتصفق له حواء.. يعلو صوته صراخاً فيهلل المحيطون لجمال الصوت ودقة الأداء.  ولأنه رجل، حالفه الحظ لعقود ممتدة فسيطر علي الكون المتسع ليصنع منه زنزانة صغيرة تضم أطماعه وشهواته وحواء معاً.. وكان الخراب والفوضي والدمار الشامل والأسي والعنف وكانت الجريمة وكل الآفات!!

وعلي ضعفها البادي، ثارت حواء.. اندلع لهيب الثورة الكامنة في أعماقها نيراناً عاتية.. ولأن من سماتها الصبر وقوة الشكيمة، تسلحت بما أوتي لها من بأس وهوادة وسكينة لمجابهة الرجل.. خرج المارد من قمقمه الصغير.. ثارت عليه.. وكانت النتيجة محاولة درامية.. مجرد محاولة لتقود العالم في غياب قائد حكيم وتسير بالكون في مسيرة سلمية ولنري النتيجة.. فلننحي ابن آدم جانباً ولندع حواء تقود العالم فلربما جاءت بما هو أسعد حالاً وأكثر إشراقاً.. مغامرة اندفعت فيها الكائنة البريئة لتحل محل الرجل –في غيبوبته الاختيارية- متولية مقاليد الحكم وزمام أمور العالم حولها.. ولم لا؟؟ تعالوا نري الصورة اليوم ونتخيلها غداً.. ومن يدري؟؟ استيقظت بنات حواء ذات صباح مشرق صحو.. سماء صافية.. زهور مورقة.. خضرة في كل مكان.. طرقات لا تزال خاوية فعقارب الساعة تعدت الفجر بقليل.. «خير أمتي في بكورها» والاستيقاظ مبكراً يعطي مساحة أوسع لكافة التفاصيل الدقيقة بدل الاستيقاظ المتأخر وما تصحبه من عجلة وتوتر وتأخير دائم.. ولأنها الأم الحانية، لم تنس قبل الانطلاق في يوم عمل طويل واجباتها المنزلية فالأصل التخطيط واحترام كافة الأدوار.. طعام الأولاد أساسي.. ملابس الزوج.. ترتيب المنزل وقائمة الأوامر للخدم وتوجيهات لا تنتهي.. فلا مجال للفوضي.. النظام أهم شيء.. وطلبات البيت وراحة قاطنيه علي قائمة الأولويات.. ولأنها الحمولة بطبعها، لم تزعجها زحمة الطريق واختناق المارة وذلك العدد الهائل من السيارات المتكدسة فلا مجال لمزيد من  ضوضاء الأبواق العالية والصراخ خارج النافذة.. الصبر أفضل بكثير.. والأصل، الوصول للعمل بأعصاب هادئة ونفس مستقرة.. ولأنها الهادئة بفطرتها والحكيمة من طول معاناتها، انطلقت بيوم عمل طويل دون كلل أو ملل فلا قرارات هوجاء بفعل التسرع الذكوري المعهود ولا عقاب دون مبرر واضح ولا مكافأة مقابل ابتسامة لعوب وضحكة صاخبة ولا فنجان قهوة ساخن ودعوة عشاء حالمة تسيل لعابها وتطوف بخيالاتها المريضة.. الذهن حاضر والهدف واضح والاستراتيجية لا تتغير ولا مجال لل«كوسة» والمقابل الغير معلوم!! ترأست ساحات القضاء، فحكمت بالعدل فهي العادلة بين أولادها.. أصدرت الأحكام القاسية بلين ومبرر منطقي فهو ما اعتادته في تربية النشيء فهي القاسية بليونة واللينة بحزم والحانية في منتهي الشدة!! مارست السياسة بحنكتها المعهودة.. حجتها لا تنتهي.. صبرها لا ينفذ.. مفاوضاتها لا تفتأ وأبداً الهدف نصب عينيها لا يحيد.. والوصول إليه يحول بينها وبين الضجر من المناورات وإن اشتدت والمفاوضات وإن طالت والمراوغات وإن كثرت والمداولات وإن ازدادت سفسطائية.. المهم.. الهدف النهائي.. مضمون.. فهي حواء، اعتادت لقرون طويلة مراوغة الرجل ومسايسته للوصول للهدف في عالم ساده استخفافه الدائم بها وعجزه عن استيعاب ذكاؤها الحاد ورؤيتها بعيدة المدي.. فكانت المفاوضات السلمية مقابل سنوات العنف وكانت النهايات المنطقية وإن بدت مبهمة –بعض الشيء- ليعاد أبداً فتح الملفات من جديد عوضاً عن تلك المواقف الدرامية والمشاهد المسرحية العنيفة التي دأب  علي اعتناقها الساسة من الرجال إذ يصل فقط لمراده، صاحب النفس الأطول.. وهي لاتكل ولا تمل ولا تفلح معها قط أساليبه المستفزة وحججه الفارغة ولا تخرجها عن صبرها المعهود.. ومن السياسة للاقتصاد، ومن أقدر علي إدارة المالية والتخطيط السليم وهي المدبرة الحكيمة.. اعتادت ضبط ميزانية البيت ملياً وتعلمت من جدتها التوفير دون التقتير.. كل مليم في مكانه المناسب.. لا مجال للبذخ الغير محبب ولا التقتير عند الوفرة بل الأصل حسن استغلال كافة الإمكانات المتاحة.. ومروراً بالصحة وأصولها للتعليم وهمومه والرياضة وأهميتها والبحث العلمي وخطورته والزراعة وحيويتها والصناعة ومصداقيتها والتموين والتجارة ودورهما التنموي والنقل وحلوله المنطقية.. والداخلية.. والخارجية.. والأمن القومي.. وطبعاً تدركه المرأة تمام الإدراك ومن غيرها يؤمن أمن المنزل الصغير ويخط ملامح مستقبل الأسرة بأسرها.. أموراً شائكة.. اعتادت عليها ضمن روتين حياتها اليومي البسيط.. ولديها دوماً إجابة لكل سؤال وحل لكل معضلة وأطواق النجاة من كل مأزق.. وعلي يومها الحافل ونهارها الطويل، لم تنس ليلاً دورها الفعال في متابعة الصغار واستذكار الدروس وحدوتة ما قبل النوم وتدليل زوج شارد علي طول الخط.. لا مجال لإضاعة الوقت فالثانية محسوب حسابها.. لا مجال لتوافه الأمور فالوقت لا يتسع لغير الأساس.. لم الخيانة مثلاً ولا مغزي لها ولا ثمن لانطلاق بلا حدود مع الرفاق فالأسرة أولاً ومستقبل تلك الكائنات الصغيرة يعلو علي الشهوة الوقتية والنظرة الذاتية القاصرة لزيف السعادة الوقتية ومتع الحياة الزائلة.. 

وبمرور الوقت، بدأ الحال يتبدل.. أمل يلوح في الأفق.. العالم علي مشارف التغيير.. بصيص من بهجة، سكينة، رخاء.. بداية حياة في زمن كادت تموت به الحياة.. الصورة كما كانت لكنها بدت أكثر وضوحاً وبدت ألوانها أكثر بريقاً.. زادت مساحة الهدوء النسبي.. أمسي الإنتاج أكثر وفرة وغزارةً.. بوادر الأمل تلوح في الأفق.. لإصلاح قريب.. تغيير جذري فالمشكلات المتراكمة تتحلل الواحدة تلو الأخري وقائمة الأولويات تضم الكثير من الأولويات بالفعل وليس كما يبدو لصانعيها وصوت القائدة لا يعلو فلا حاجة لها للصوت الجهوري والصياعاً لإثبات القوة والسيطرة، فقد اعتادت الصوت الخفيض والنبرات الهادئة وأبداً تحصد كل ما تريد.. ليست في حاجة لاختلاق المشكلات للتفرد بحلها فهي بالفعل «حلالة العقد».. ليست في حاجة لإدعاء إنكار الذات، فهي للتفاني نموذجاً.. ليست في حاجة لشيء.. فلديها كل شيء.. وأكثر.. وفي خضم الأحداث الدرامية المتتالية، ووسط هتاف المشاهدين ودوي التصفيق بالقاعة الهادئة، خرج الرجل عن شعوره وانبري يوقف العرض مسدلاً الستار علي ما اعتبره بغروره «مسرحية هزلية» إذ لم تسعه سعة صدره الضيق علي احتمال المزيد!! أعادها –علي غير طواعية منها- لمقاعد المتفرجين منفرداً كسالف عهده بدور البطولة المطلقة.. أبداً من جديد!!

ومع عودته السالمة لأرض المعركة، عادت بدورها لمنزلها الصغير تاركة خلفها صخب الوزارة وضجيج الطرقات المشتعلة ونيران الفتنة ولهيب الحروب وأزمات وتحديات علي كل المستويات.. وبداخلها سخرية لاذعة «ورينا شطارتك يا سيدي..». ولأنه رجل، كال لها سهام السلبية والقصور والتراخي.. عاد لينفرد بالقيادة من جديد.. فعادت الحروب علي أشدها.. عاد الدمار مهرولاً علي قدم وساق.. عاد التوتر يخيم علي أرجاء المدينة القابعة منذ قرون في صمت القبور ترنو لعودة الحياة من جديد.. و«يا فرحة ما تمت».. كفاك يا رجل غروراً.. وكفاك يا حواء انكسار وهزيمة.. كفاك صلفاً وتيهاً زائفاً وكفاك ذلاً وهواناً.. كفاك صلابة واهية ومواقف مختلقة وكبرياء زائف.. وكفاك انصياع لحكم غائر وشراسة بلا حدود..وعلامة استفهام حائرة.. لم تفترقان في صراع أبدي لا ينتهي.. لم تتنازعان علي طول الخط.. لم لا تتفقان علي سلام -ولو وقتياً- فضلاً عن حروب تبيد أكثر ما تبني.. تدك الأرض عوضاً عن إعلاءها.. وتفرش الثري أرضاً متسعة وورود الربيع علي الأبواب.. لم ليالي الشتاء وقسوة ساعاتها وتساقط أوراق الخريف فقط تعلق بالأذهان.. وذكريات الربيع ونسماته العذبة ولهو الصيف ولياليه الساهرة وأمل القلب النابض والنفس التواقة للحب لازالت في الوجدان.

فصول العام أربعة متتالية.. تحالفوا لتعم السعادة وتسود البهجة.. ليأتي الشتاء بذكريات الربيع فيعم الدفء برغم الصقيع وبرودة الثلج.. وبسقوط أوراق الخريف، تسقط الشرور وتنهار وتجتاح العالم موجة حب.. شرارته تنطلق من كل الأركان.. فيضان من حب.. يعلو ويطفو فوق الدسائس وكل الأرذال.. نعم.. سيعم الحب.. أبداً، سيعم الحب.. دوماً وأبداً سنحب.. بالحب نحيا ونموت.. نسعد ونشقي.. نأمل ونيأس.. بالحب، نعيش.. وأبداً سنعيش.. دعوة محبة.. ورغبة في تواصل دائم.. دعوة علي فنجان قهوة في المقهي الصغير.. مقطوعة موسيقية حالمة.. وردة حمراء.. عزف القيثارة.. لون البيداء وشمس النهار في ريشة فنان علي لوحة جدار.. لقاء دائم.. والأصل أبداً آدم بكياسته وحواء بعذوبتها وحدوتة لا تنتهي.. وعالم لا يهدأ.. وأسطورة لا تموت ورسالة حب.

إقرأ أيضاً