تتعدد الطرق، تتنوع الوسائل، تتباين الدروب، تتشابك الصور، تتشعب التفاصيل، تتراءي أمامنا، تتباعد المسافات وتتراكم أميالها وتبقي اللحظة فاصلة نهاية حاسمة أو بداية من جديد. لحظة يأس قاتم أو أمل يتجدد، لحظة فراق وقتية أو بقاء وتواصل إلى الأبد، لحظة الموت أو قطرة الحياة،  نقطة صغيرة تباعد بين المتناقضات وتفرق بين المعانى المتشابهة فتقرب البعيد وتجعل من القريب بعيد المنال، لحظة فارقة بين العوالم والدني، إنها لحظة الإختيار الصعب.

نعيش جميعاً تلك التجربة، تتراءي أمامنا حلولاً كثيرة تتباين حيناً وتتشابه في كثير من الأحيان، تفصل بينها شعيرات دقيقة تنقلنا من حال إلي حال ومن موضوع لغيره ومن نقطة لسواها وكثير ما نحتار وعلينا دوماً أن نختار، وأبداً نحتار وعلينا دوماً الاختيار وأبداً تبرز النقطة الحاسمة واللحظة الفاصلة ودوماً الاختيار الصعب.

ولأننا بشر نختلف، منا من يدع الأيام تخطط له فترسم له ماضياً يحياه وتتنبأ له بالغد قريب أم بعيد ومنا من يمسك بزمام أموره ويخط سطور الرحلة قبل أن تخطها أيام تطيح بنا دون هوادة أو رحمة، منا من تسقط منه الفرصة الواحدة تلو الأخرى فيضيع بصيص الأمل في تغيير الواقع واستبدال الصور ويحتار فيضيع منه الاختيار. وعلى النقيض، منا من ترسم ريشته لوحة الرحلة بحلوها ومرها.. بواقعها وغدها وربما ماضيها إن سنحت الفرصة، منا من يسير علي درب الحياة ومنا من يُسير الكون من حوله ويحول الدفة لاتجاه سفينته أياً كانت درجة سرعة الرياح وعنفوانها وقوتها..الاختيار صعب، حقيقة واقعة لا يمكننا إنكارها وعدم الاختيار أصعب فسرعة اتخاذ القرار قد تكون بكثير من الأحوال أفضل من التباطوء فيه، الأول ندفع ثمنه من أيامنا والأخير ندفعه عمراً بأسره وتأتي النهاية -كما ستأتى كل نهاية- فنندم ونحزن، ونهتم ولا فائدة ولا عودة لماض رحل وأيام ولت ولوحة انشرخت وعمر انقضي. قد نندم أيضاً مع التسرع فى القرار لكن الندم على فرصة لم تكتمل أقل وطأة من الندم على فرصة أضاعتها عدم قدرتنا على اتخاذها واقتناصها والتفاعل معها فى حينها.

الإختيار قرار، سريع أو بطيء لا يهم فالأصل أن تختار بين الصور لتشكل لوحة قد تروق لك في نهاية الأمر أو تقضي العمر نادماً علي ألوان صنعتها بيديك فما تخيلته ذهباً قد يمسي لك تراباً وما تحسبه ماساً قد يكون فى الأساس بريقاً زائفاً لزجاج عاكس وما يبدو لك باهتاً قد يحوى في الأصل سر الحياة. وأمام الاختيارات نتوه، نختار الأسهل فنجده المستحيل، نختار الأكثر راحة فنجد فيه الشقاء وكل العناء، نختار الأبسط فنجد فيه كل التعقيد وتأخذ منا الحيرة دروباً وأسفاراً، نتباطأ فتسرع دقات الساعة ويدور العالم من حولنا، ونتسرع فيحالفنا الندم ونضحك في نهاية الأمر، تتعالى ضحكاتنا جوفاء أو ساخنة وقد نبكى وكثيراً ما نبكى ونصرخ، لا يهم.. فماذا يهم وماذا يفيد فالأصل فعلاً من صنع يد لا تدرى ما تخط وعين لا ترى سوى ما تريد ودوماً لا تدرى ما تريد!!

فى كل ركن، على كل ناصية وبداخل كل جانب، اختيار صعب، يبدو سهلاً لوهلة وقد يبدو قاتماً فهو مارد مجهول نتكهن به ونجهله أياً كانت درجة إدراكنا له، عالم بعيد نحاول رسم صورة له بخيال عاجز في الأغلب عن التخيل وعين لا تري أبعد من حدود البصر وتحاول جاهدة رسم تلك اللوحة البعيدة لتختار ودوماً تحتار فتصيب أو تخطيء والأصعب الإختيار الخاطئ. نري الحلكة فتمضي بها لتنتهي ظلاماً دامساً تتوه بين أرجائه بحثاً عن بصيص النور، نخدع أنفسنا بتخيل قدرتنا علي تغيير الصورة وتبديل معطيات العالم من حولنا وعندما يعتم الكون بداخل النفس وخارجها ندرك مرارة الاختيار ونمضي قدماً فلا سبيل للتراجع ومزيداً من العتمة وأضواء تخبو ونهاية تلوح من بعيد بخديعة بدأها خيال واهم ونهاها قدر محتوم بدا واضحاً منذ البداية.

نري الحائط الأسود الصلب ونمضي غير عابئين، ينبئنا العقل بحتمية الارتطام فلا نعبأ وعندما ترتطم السفينة بالجدار القاتم العالى تنسال دموع حارقة، تبكي ماضي وليَ، ويوم لم نعشه وغد ضاع في محاولة للتغيير ويلاحقنا الندم وتتتابع الصور ومزيداً من الندم والحلم في بداية جديدة قد تأتي وقد يمضي الزمن ولا تأتي أبداً من جديد.

لقائى معك اختيار وبعدي عنك قرار وبينهما كل المتناقضات، بينهما حياة تتباين صورها، في القرب سعادة وفي البعد راحة وفي العمر صورة هي لي كل الصور ودائماً أبداً الاختيار الصعب. ليس الاختيار الصعب ذلك القرار الذي نجد فيه الراحة اليوم بل الأصعب ذلك الاختيار الذى تكتمل فيه صورة قد لا نراها فى حينها لكننا نراها حتماً فيما بعد، صعب ومرير ذلك القرار القاسي الذي يفصلنا عن واقع نحياه والأقسي ذلك الاختيار الذي نقسوا فيه علي أنفسنا بشدة، نتخيل فيه الصواب ونخطىء. ليس الأضعف من يلين وليس الأقوي من يغلظ، ليس الأضعف من يتسامح وليس الأقوي من يشطر السطر بمنتصفه ليبدأه من جديد، ليس ضعفاً منا البقاء في حالة أو الإبقاء علي واقع والاستمرار في التجربة، ليس ضعفاً منا الهزيمة بل فيها كل الصلابة  ورجاحة العقل وكل البأس ومنتهي القوة.

الأسهل أن نستجيب والأصعب أن نقاوم، الأسهل أن نهدم والأصعب أن نواصل البناء لعل الصورة تكتمل ولعل الزمن يمضي قدماً والأصل دوماً اختيار، يسعدنا أو يشقينا لا يهم فالأصل قرار تتخذه في لحظة ضعف أو قوة، يأس أو أمل، هزيمة أو نجاح، تواصل أو انكسار، ودوماً نختار ودوماً نحتار والأقسى دوماً الاختيار الصعب.

إقرأ أيضاً

أحدث المقالات

إعلن معنا

  • Thumb

الأكثر قراءة

فيسبوك

إنستجرام