بدأت القصة على رمال بيانكي، شاطيء العجمي الشهير وأشهر ما فيه حواديته الصيفية وقصصه الملتهبة، نفس الحدوتة الصيفية المكررة، مللناها من فرط تكرارها لكننا أبداً نعيش تفاصيلها كل موسم. المهم، تقابلا على غير موعد، صدفة عابرة على الشاطيء المكتظ برواده، نفس الشخوص والصور ذاتها كل عام،
تختلف النوايا والأهداف وأبداً المرح واللهو وصخب الويك إند وانطلاقة الصيف على الرمال البيضاء. حاولا مراراً تذكر آخر لقاء، كان ذلك منذ أعوام طويلة، زمن مضى وسنوات لم تغير من ملامح وسامته المفرطة بل زادته السنون جاذبية وازدادت إطلالتها إشراقة بسنوات أضفت علي الوجه بريقاً وعلي العقل رجاحة وأخفت خلفها خبرات متراكمة وكثيراً من الأحداث المتلاحقة.
لم يكن ليلفت انتباهها وما بالها بزير النساء، ترى في وسامة الرجل ملامح لا يملكها وبعقله غموضاً يفتقر إليه. كان دوماً لها رجلاً خفيفاً، مجرد رجل يملك من الحياة مقوماتها ويفتقر لجوهر أفنت سنواتها بحثاً عنه، رأته مراراً بل كانت تراه دوماً وكان يراها ولم تكن تلفت نظره أيضاً فهي جادة طموحة صاحبة أهداف وإنجازات وهو لاهى عابث «واخد الدنيا عالرايق»، هدفها ارتقاء درج النجاح لآفاق أكثر اتساعاً وهمه الإيقاع بأكبر عدد من النساء وصبايا المجتمع المخملي وكان لها ما سعت إليه وكان له ما كان. ومع صدفة اللقاء، تلاقت الأعين وتشابكت الأيدي وبدت الرغبة واضحة في مزيد من ساعات اللقاء وافترقا على موعد وكل يوم على موعد لتبدأ قصة صيفية تتطور مع أيام تجمعهما معاً، وكانت رمال الشاطيء وساعات المرح وسهر الليالي وكثيراً من الموسيقى ومرح القصة الوليدة وكل الإنطلاق.
حاولت التعرف عليه عن قرب وبذل كل الجهد للإيقاع بها، لمست بداخله رجلاً ناضجاً لا يراه فتركيز عينيه الأوحد علي صولاته وجولاته بعالم النساء، طيب القلب ومفرط بحنان لافت وشفافية ونقاء أرستقراطية زمن ولى وأخلاق نبلاء لا يستوعب منها سوى الأدوات التقليدية للإيقاع بالفريسة. تعددت اللقاءات، ازداد التواصل وألا من مزيد وقصة عنيفة وكلاهما تخطي الأربعين رغم الصبا الواضح والروح الشابة والمرح الذي يكسو الهامة الشامخة. أحبته، أحبت به جوانب لا يراها بذاته القاصرة عن استيعاب العالم من حوله ورؤية محدودة بمجموعة أهداف أسفل قدميه فالاستمتاع بالحياة ومباهجها غايته مع انعدام تفسير واضح.
رآهم الجميع «كوبل» يدير الأعناق وازداد إلتصاقاً بها، لعبت بحياته كل الأدوار فهي الصديقة المخلصة والأم الحنون والإبنة الشقية والحبيبة الولهانة وحلالة العقد على طول الخط، يحمل له الهاتف صوتها كل صباح ويلقاها مساء وبطول ساعات ليل تمتد برغبتهما في البقاء، يبحث عنها وهو من اعتاد عمن تبحث عنه، اكتشف معها خباياه وشعوراً بالغيرة وحب الامتلاك، أرادها له وأبي الاعتراف. ساندته، تحملته، تقبلته، استوعبته، حاربت معه نفسه العابثة وروحه اللاهية، سأمت مغامراته وصبرت عليها وتعايشت مع أكاذيبه فحواديت الجان لا تنتهي وصولاته وجولاته «على عينك يا تاجر». وكلما ازدادت صبراً، ازداد إلتصاقاً مع احتفاظه بمطلق حرية الكر والفر والإقبال والإدبار والأصل بقاؤها معه فلا حياة له بدونها لكن ظل قرار الارتباط شبحاً أسوداً يطارد الجان. سنوات طويلة مضت أفنت بها ما تبقى من براءة الصبا ونقاء الروح لينتصف عمر يشاركها إياه فتزداد نضجاً وبريقاً ويزداد غروراً بذاته ولا يفترقان ولا يتواصلان ولا أمل بحياة تجمعهما يوماً معاً.
تخاف مواجهته خشية فقدانه ويهدأ لخوفها خشية البعد عنها فهي له توأم الروح لكنه أضعف من اتخاذ القرار فالحلو شايف نفسه غندور زمانه، حلم الفتيات حراً طليقاً، تقع الفتيات أسرى هواه لله في لله فسحره الفتاك لا يقاوم وجاذبيته فوق مستوى الشبهات، لا يرغب بقيد ولا مسئولية -وإن لم يتحملها- فعلى عاتقها كل المسئوليات وعليه فقط الاستمتاع بالحياة والأهم بقاؤها بحياته فلا حياة له بدونها، وكيف؟ ومن تحتمل نزواته وأطواره الغريبة واللامبالاة التي يحيا بها؟ ومن تكون له الأم والابنة والحبيبة والمساعدة والصديقة ومديرة المنزل والعاشقة تحت الطلب؟ إنها له منظومة متكاملة لا غنى عنها فالأصل لديه علاقة أبدية غير مشروطة، عطاء وافر ومستمر من جانبها وأنانية رجل هو في الأصل كل الرجال!!
وفي لحظة ما، تمردت المحبة، تشجعت، لملمت شتات ذاتها الممزقة وأشلاء روحها المهلهلة وانبرت بمرافعة جمعت أحكام العقل والقلب والمنطق والحجة وكل الحب وبكل الإصرار والتحدي وبركان الثورة الكامن بأعماقها وهزيمة اليأس وكثير من التخاذل، نعم تحبه لكنها أبداً لن تقنع بالدور الثاني بمسرحية يحتفظ لنفسه فيها بالبطولة المطلقة، مسرحية هزلية فصولها حياته معها وأيامها معه وقرار لا يقوى عليه وفراق لا تستطيعه وتواصل لا يتم. وكان الفراق، يحبها ويحب ذاته أكثر، يعشق أيامها معه ويفضل الحياة حراً طليقاً على المثول بين جوارحها بمسمى الزوج ورب الأسرة رغم أوان قد حان وكانت فرقة كتبتها يداه العاجزة عن الإمساك بالحلم، فرصة لم ينتهزها لرغبته الأنانية في الاحتفاظ بكل شيء.
ولأن الاختيار أساسي في حياة تضعنا دوماً أمام القرار وما القرار الذي لا يقوى عليه؟ تساءلت بغصة في قلبها المكلوم ودموع خرساء بالعين المتحجرة وكل الأسى على رفيق أضعف من مجابهة ذاته التواقة أبداً إليها، وما القرار.. رباط مقدس لرحلة عمر مضت أغلب سنواته، وما الحلم؟ درب يجمعهما سوياً ورحلة يمضيان ما تبقى منها معاً، شكل اجتماعي وبرواز أنيق وشرعي لعلاقة قائمة بالفعل بخل عليها به. طغت أنانيته على عقله وقلبه، يريدها أبداً له.. معه.. بجواره.. بحياته.. دون إلتزام، دون كلمة، دون وعد، دون أمل، دون هدف. قرار بالتواصل لا يستطيعه فما كان منها سوى اتخاذ القرار بالنيابة عنه كعهدها معه.
وكان البعد ونهاية قصة سأم الجميع فصولها من طولها لتضع بقرارها خاتمة لحياة وبداية ليوم جديد. تركته بدون ندم وبقلبها جرح سيندمل وألم سينتهي ودمعة ستجف وحدوتة ستنساها يوماً ما، رحلت شامخة حزينة وآسفة لحاله بدونها وكلها إصرار على النسيان، خذلته قوتها وهزمه إصرارها وقسوتها التي لم يعتدها من قط.وافترق الرفيقان فعاد من جديد لعالمه الخاص وانطلقت بطموحاتها وأيامها وذكرياتها معه، عاد لوسامته وسحره ولهفة الفتيات من حوله وعادت لعالمها الصغير بدونه. سنوات أخرى طويلة مضت تراكمت بها الأحداث والأشكال وتداخلت الصور والمعاني، انهارت أحلام وتعالت أخرى، أيام خاوية وأخرى مليئة حلوها علقم ومرها ذكرى ما زالت عالقة بالقلب المكلوم والنفس الحائرة أبداً بدونه، سنوات أفضت لمزيد من السنوات.. أيام.. أيام وكثير من الأيام.
ومن جديد كان اللقاء وصدفة جديدة، بعينيه ندم وبعينيها بريق، على شفاهه رجاء وعلى شفاهها صرخة. عادت إليه روحه بلقائها وتدفقت الدماء بشرايينها الخاوية بلقاء عابر.. مجرد صدفة. عادت إليه روحه الشاردة ولم يلحظ شرودها واستردت بلقائه الحب والأمل والكرامة ومنتهى القوة. فنجان قهوة عابر وأحاديث مفككة لإطالة الوقت وتبادل أرقام المحمول الجديدة وصور الماضي تلهث محاولة العودة من جديد وتعددت اللقاءات وانهار جبل الثلج وسقط المارد وانفجر البركان.
واليوم، جاء راكعاً طالباً يدها للزواج على ثقة شديدة من موافقتها الحتمية بل وسعادتها الجمة فاليوم جاء لها بالقرار الذي عاشت لأجله محققاً حلمها الأول أو هكذا حدث نفسه فالمغرور لم يتغير، لا زال على عهده، أرادته يوماً فأضاع سنوات عمرها واليوم يريدها وعليها الإنصياع بل والفرحة بقرار تأخر سنوات وسنوات. بداخله شوق جارف وشعورها نحوه مازال كما كان فالحب بمنتهاه واللهفة بعنفوانها لكنها اليوم تملك عقلاً أنهكته سنوات الفرقة والخبرة ووجع الأيام.
نعم لم أتزوج، كنت وما زلت لي حلماً وأملاً، كنت ولم تعد أو عدت ولم أعد كما كنت، لست تلك الولهانة العاشقة لمن لا يرى بالكون سوى ذاته ولا يدرك من العالم سوى مطامعه وأهوائه. واليوم عدت، مكالماتك لا تنقطع وكنت شحيحاً بها، رغبتك في اللقاء تضاعفت وكنت أتوق لساعة من وقتك الثمين، مشاعر فياضة تغدقها بغير حساب وكنت أستاذاً بعلم حساب المشاعر انطلاقاً من مبدأ «إن زاد عن حده» وغيرها من أفكار سوداء امتلأت بها مقلتيها الدامعتين من جديد والسبب اليوم مختلف.
لا.. لا.. لا.. وألف لا، خذلتني، تركتني، يوم ارتفعت هويت بي، يوم اشتريتك بعتني وهجرتني وتركتني. نعم، مضى القطار بكلانا واليوم تبحث عن الفرصة الضائعة، الفرصة ذاتها رغم مرور العمر، لازلت تريدها على عهدها. مضت بك السنوات وحيداً، إنطلق الأصدقاء بحياتهم فقد كبر الأولاد وازدادت المسئوليات ولم يعد لديك الرفيق اليومي تحت الطلب، عزفت عنك الفتيات بعد تأكدهن التام من عدم جديتك بعلاقات عابرة لمجرد ملء الوقت، ظل عمل متواضعاً كسالف عهده، حياتك الرتيبة لا زالت كما هي. أما أنا فإختلفت، اتسعت حياتي، خلقت لنفسي عالماً يتسع بقدر استيعابي له.
واليوم عدت فرحلت أنا ولتبحث عن سواي، عن قصة جديدة ولك مني نصيحة، أعرفك كما أعرف ذاتي بل أكثر وأحبك بقدر ما أحب الحياة والعالم من حولى لكن عمر مضى ورحلت أجمل سنواته والأجدر بي البقاء وحيدة علي الإبقاء على قصة مهلهلة ومحاولة مستميتة لإستعادة الماضي بفصوله البالية. ونصيحة إبداً من جديد فالماضي أبداً لا يعود ولكنه يصنع المستقبل ولربما ما كتبته بصفحة الأمس يكون بداية لصفحة الغد، وأنت لي الأمس.. مجرد أمس مضى وسيمضي كما سيمضى العمر، سعيدة أنا بدونك.. وأنت.. ذكرى.. مجرد ذكرى.. يسعدني وجودها بين طيات كتاب حياتي لكنها دوماً ستكون مجرد فصل، حدث، مقطوعة لا بداية لها ولا تصلح لخاتمة الكتاب.