مقهى نائي في ذلك الشارع الضيق المظلم الصغير على ازدحامه برواده.. يخلو المكان من الضجيج والأصوات العالية والضوضاء غير المبررة والتي أمست تغلب علي أغلب مثل تلك الأماكن.. دخان كثيف رمادي داكن يملأ أرجاء المكان ويحول دون الرؤية الواضحة لتفاصيل المكان.. الكل يدخن قتلاً للوقت والملل فى انتظار سيول الأمطار أن تتوقف أو تجف أو تمسي برقاً ورعداً وليلة قاسية أخرى بلا نهاية..

لوحات متناثرة علي الجدران.. ألوان باهتة تزين فراغ الأروقة الضيقة ومقاعد خشبية صغيرة ومريحة تهب للرواد دفئاً وتحيط المكان بألفة محببة وكثير من الحميمية.. فنجان قهوة ساخن فى ليلة شتوية قارصة.. دقات الساعة تقترب من منتصف الليل والكل علي موعد.. جريدة الغد نقرأها اليوم وأحداث العالم من حولنا تشغلنا بقدر ما تشغلنا أمطار لا تتوقف ورياح عاصفة وتوتر عام وصمت قاتم يعم أرجاء المكان.. لا نشعر به.. فدفء المكان يحول ولسعة البرد القارسة.. وأمل في رحيل قريب مع توقف حبات المطر.

هناك، وسط السكون والزحام، تقابلنا علي غير موعد.. نظرات جمعت بيننا.. وعبارات قصيرة تبادلنها في حديث مقتضب لغرباء على عجالة وحوار قصير جعل من الغريب أليفاً ومن البعيد قريباً ومن اللقاء العابر بداية لرحلة تمنى الغرباء ألا تنتهى. افترقنا علي لقاء.. اجتمعنا علي أمل ووعد واتفقنا -ضمناً وأبداً- علي حياة. وكانت البداية.. مجرد بداية.. شأنها شأن كل القصص والحواديت التي نسمعها ونتناقلها ونهوى تداول تفاصيلها.. قصة جديدة أو قل قصة قديمة تتجدد لفصل متكرر من فصول الحياة.. حكاية نعرفها جميعاً ورواية نقرأها ونسمع عنها ونتنقالها كل يوم. ومع توقف المطر، حان الرحيل.. ومع خيوط الفجر الأولي، بدأت قصة.. وكانت السطور الأولي في فقرات أيام جمعتنا علي مشاعر عميقة، تزداد عمقاً بزيادة التواصل والحوار وتقارب المسافات وضيق الهوة وتلاحم الأرواح وتناغمها وإحساس مرهف تزداد حدته ويلمع بريقه وتشتد أواصره يوماً بعد يوم.. أمست الحياة بعيداً ضرباً من المحال والفراق شبحاً لاهياً واستقر العاشقان علي الوثاق الأبدى وحلم القفص الذهبى ورحلة العمر تمضي بهما معاً.

ومضي شهر من العسل الصافي.. القبلة الصامتة.. اللمحة الخفية.. النظرة الحالمة.. كلمات من الحب والعشق والهيام.. ضحكة من القلب.. فيض من المشاعر وكثير من الرغبة والحلم والتفاني.. ساعات طويلة قضاها في سعادة بالغة.. توقفت معها عجلة الزمن عن الدوران وأمسى المحبان كياناً متناسقاً، متجانساً، متلاحماً فى همسة حب وأمل وسعادة غلفتهما بسياج من نور وبريق يلمع فى العيون والأرواح والأفئدة. ومضي العسل بحلوه.. كثير كان حلوه وساعات هنائه ورونقه وبريقه اللامع في شفافية وكثير من الجمال وأصالة المشاعر ورساختها في القلب والروح والوجدان، وعدنا للحياة.. عدنا لأيامنا وبداخلنا الحلم والعشق وكثير من الأمل.. وعادت العجلة السالفة لتدور بنا الأيام من جديد.. عمل وأقارب وأصدقاء.. فنجان قهوة مع صديق.. فيلم جديد فى السينما.. كوتشينة في منتصف الليل.. حلقات مسلسل نشاهدها معاً وساعات طويلة من الصمت تغلف منزلاً يجمعنا معاً.. بين هدوء وسكينة.. أو قل -يوماً بعد يوم- وحدة وفراغ ولغة صمت أمست عنوان اللقاء وأصل التواصل.

واستقر العاشقان وثالثهما صمت دفين يزيد يوماً بعد يوم.. اندثرت الكلمات في منزل تزداد الثواني فيه طولاً والساعات ثقلاً والأيام صمتاً.. تتباعد فيه المسافات.. تتسع فجوة ساكنيه.. وتدريجياً، استعذب ساكنوه الوحدة.. استقروا على سكون قاتل وهمس يتوارى تدريجياً.. وذات صباح.. أو كان مساء.. لا نتذكر.. وماذا يفيد أو يهم.. اختفت لغة الحديث.. توارت العبارات المطولة والجمل الاعتراضية وفصول الحديث اللانهائية لتصبح الجمل كلمات مقتضبة والحوار كلمة مختصرة والشوق لمحة خاطفة والحب روتين ثابت بعدما كان -يوماً- للعاشقين نبع الحياة!!

«إلهى.. كم تغيرت.. تبدلت مشاعرك.. جف ينبوع حنانك.. صرت كائناً يحيا.. صارت ساعاتنا معاً مجرد حياة.. صار غدنا واقعاً ننتظره بعد أن كان حلماً نتمناه.. صارت أيامنا ساعات طويلة تفصل بيننا بعد أن كانت أملاً يراودنا ويحيا بين جوارحنا.. صرنا أغراب بعد أن كنا يوماً أقرب الأصدقاء» حاورته.. شاورته.. أنبته.. عنفته.. فازداد بعداً وازداد هدؤه صمتاً.. وكلما زادت ثورتها، زاد صمته.. وكلما علي صوتها شاكياً، زاد بعده.. وأمام دموعها الصامتة وصراخها الصامت، ازداد جفاؤه وبروده وعزفه وعنفوان صمته وقلة حيلته أو قل انعدام رغبته في التغيير.. قلت كلماته.. تكسرت العبارات علي الشفاه الجافة من قلة الأحاديث وندرتها أو قل انعدامها.. عبرت نظراته ولمحات عينيه الخاطفة عن ملل قاتم يحياه.. سأم حاد يقتل أيامه وروتين أسود يخنقه.. وحفاظاً علي الحياة أو أشباه الحياة كما رآها وتشبث بها.. اندفع في سيل من الأمانى.. وعود قطعها على نفسه في كلمات موجزة وعبارات مقتضبة.. أكان حينها صادقاً أم كان موقفاً يبحث له عن نهاية؟ وحياة ينبش بين ثناياها عن خاتمة ترضي كل الأطراف المتداخلة والمتشابكة والمجبرة علي التواصل والتلاحم أبداً باستمرار علاقة تموت يوماً بعد يوم..  لا يهم.. فالنتيجة واحدة.. والخاتمة آتية لا محال.. نعم.. لا يزال الحب هناك.. بعيداً.. قابعاً في هدوء وسكينة.. صامتاً خلف أبواب النفس المغلقة والوجدان الحالم رغم البعد والانفصال الروحي وربما الجسدي أيضاً إذ لم يعد يجمعنا شيئ معاً.. لا تزال ذكرى الأمس البعيد علي قربه ولحظات السعادة الخاطفة تلوح في الأفق.

يبدو الحب في نبراته وتخلو منه عباراته.. نعم، يحبها، بل قل يعشقها بلا مبالغة.. ولأنه يحبها، تركها وحيدة ومضي في سبيله.. كان علي موعد مع صديق.. أمسية جديدة مع الرفاق.. فحالها من حاله وإن لم يعبر عنه.. ولت أيام اللهفة والشوق والركض والبهجة.. لم تعد -له- الحبيبة العاشقة والأنثى المدللة بل الزوجة الحنون.. لم يعد الحب بل أصبح الواجب .. لم تعد الرغبة بل أصبح الالتزام.. لم يعد الأمل بل أصبحت الحياة!! ومضى.. اندفع وتركها.. هجرها.. دون كلمة عتاب أو عبارة حب أو وعد بلقاء.. تركها وبدورها تركته.. ومضي كلاهما وحيداً.. كل في سبيله علي درب فرقهما بعد الوصال وباعد بينهما بعد التواصل والحب وكل التفاني والأمل.. رحلا أو قل فرا لتزداد الهوة السحيقة اتساعاً وتتباعد المسافات.. تمسي الأمتار أميالاً.. تمسي الدقائق ساعات.. والقصة التقليدية تقترب من الخاتمة.. والنهاية الحتمية.. امرأة وحيدة تشكو.. ورجل هو كل الرجال..!!

كم من حديث لم يدر.. كلمة توقفت.. نظرة توارت.. همسة خبت.. جدران تجمعنا لتفرقنا كل الحياة.. نزداد قرباً لنبتعد.. تنتهي الحكاية لتعود الكرة وبعد النهاية يبدأ السطر -دوماً- من جديد.. نفس تلك القصة التقليدية تتكرر كل يوم.. فى كل زمان ومكان.. نحياها مع الأصدقاء ونروي تفاصيلها التي طالما عشناها مع القريب والغريب.. أصبحت واقعاً نتداوله ونسلم به أو بالأحرى قل نستسلم له.. تتعدد أمامنا الاختيارات والحل دوماً الفراق.. أبطال القصة هم أنا وأنت.. جموع الرجال وكل النساء..!! تتغير الأشخاص وتتبدل الأسماء وتتعدد الأسباب وتبدأ الفصول الكلاسيكية لقصة لا تنتهي أبداً بل تبدأ - فقط- كل يوم من جديد..!! واليوم تدق الساعة لتعلن ميلاد يوم جديد.. وتأتي ساعة الفراق.. وعند لحظة الرحيل.. فقط عند الوداع، نبكي عمراً جميلاً قد مضي.. حباً قد خبا وأياماً قد ولت وحملت معها ذكري هي العمر كله وقصة هي -لنا- كل الحياة..!!

واليوم افترقنا.. انتهت متاعبنا.. أو قل بدأت من جديد، ومع فنجان قهوتي وحيدة، أتذكرك وأيامي معك، أشتاق لحديثك.. لعراكك.. لقفشاتك المرحة وصوت صراخك يعلو أرجاء المكان.. أشتاق إليك.. لساعات ليل طويلة أقضيها في انتظارك وتفاصيل حياة أحياها معك، فنجان قهوتك الصغير.. جريدة الصباح.. ملابسك الملقاه في كل مكان.. رنين الهاتف.. حديثك المقتضب.. مدفأة قديمة بغرفة المعيشة وبقايا طعام علي المنضدة.. أشياء صغيرة.. تفاصيل دقيقة.. هي لي كل الحياة.. وبعد.. أشتاق إليك!!  غريبة تلك الحياة.. حياتنا التى نحياها .. نستثمر كثيراً من الوقت في التعرف على الأصدقاء.. نشاركهم همومهم ونتبادل معهم أحداث أيامهم.. بحلوها ومرها.. نقضي ساعات طويلة في العمل.. نقبل علي مشروع جديد فنقتله بحثاً وحديثاً ومناقشات ودراسات.. نتكلم فلا تخذلنا الكلمات.. نتحاور فلا تعجزنا مفردات حديث لا ينتهي وعبارات لا تنفذ ونعود إلي المنزل فيغلفنا الصمت والسكينة، لكأن الحياة تتوقف علي أعتابه.. تنسانا اللغة.. لا نعجز عن إيجادها حين نريد.. ولا نريد.. وأبداً لا نريد!!

نعم.. الحوار يفتح الأبواب المغلقة.. يزيل الفوارق قبل أن تطفو خلافات شائكة لا تحل.. يهدم الحوائط قبل أن تعلو جدران صلبة ويقرب المسافات قبل أن تتباعد والهوة قبل أن تتسع..!! الكلمة تجعلنا نعبر.. نتفاعل.. نتواصل.. قد نكره أو نتشاجر وبالكلمة أيضاً نحب!! حواري معك بداية.. أعرفك وتعرفني.. أحبك بطريقتي.. بأسلوبي.. بمفهومي.. أريدك دوماً معي.. وتحبني بنظام مختلف وإيقاع قد يتضارب وإن اشترك فى الهدف.. قد يتناقض وإن توحد فى المضمون..

حادثني.. حاورني.. اشركني.. ابتعد عني لتقترب مني.. اتركني لتعود إلي من جديد.. كلماتك تسعدني.. تجعلني  أشعر دوماً بالحياة من حولي.. علمني ماتكره لأعرف ما تحب.. شاركني أفراحك لأحمل معك عبء الحياة.. ابني معي هوايات مشتركة.. ساعات تواصل وإن قصرت.. تكفيني كبداية.. خاطب عقلي لأسمعك.. حاور ذهني وطموحي وأحلامي.. شاركني تفاصيل حياة تتجدد فصولها كل يوم.. اسألني عن عملي وأصدقائي وساعات يومي الطويلة بدونك.. وحياتي معك..علمني كيف أحبك.. بعقلي.. بقلبي.. بإحساسي.. بكلي.. فالحب وحده يكفي لكنه -أبداً- لا يصنع الحياة..!!

إقرأ أيضاً