زمان، كان الطقس حار جاف صيفاً دفيء ممطر شتاء وكان هناك خريف نستعد خلاله لبرد الشتاء وربيع تزدهر فيه الورود وتُورق أشجار المدينة.. كانت الذروة وقت دخول المدارس وخروجها والذهاب للعمل والعودة منه.. كانت القراءة هُواية والرياضة واجب والأكل مزاج والخروج ويك إند.. كانت السينما فُسحة والنادي مكافأة والصيف إنطلاقة علي شواطيء بيانكي والمنتزة والشتاء قوقعة دراسية بإنتظار العطلة من جديد.. كانت صلة الرحم أساسية والتواصل العائلي أسبوعي وعيادة المريض واجب والعزاء مشاركة والنهار عمل والليل سكون..

كانت السيجارة عيب والقهوة للكبار والشاي مكروه والأكلات السريعة وبال.. كان المرض إبتلاء والصحة نعمة والصداقة كنز والأخ سند والصديق أليف وزملاء الدراسة رحلة عمر وذكريات لا تنتهي.. كان المصروف جُنيهات والادخار وسيلة لإقتناء ما تُريد.. كان العالم غير والناس غير والأماكن غير.. كانت الشتيمة عيب والتأخير قلة إحترام.. كان لدينا أبناء عمومة وأخوال وأقارب كلنا أخوة تجمعنا ذكريات طفولة ومرح شباب.. كنت وأخويا علي ابن عمي وكنت وإبن عمي علي الغريب.. كان الحب شعوراً مُقدساً والزواج رباط أبدي وقيم الإنسانية تجعل منا جميعاً سداً منيعاً إزاء من يُغير علي الكيان ومن يقترب من الهيكل.. زمان، كانت مصر هبة النيل ومهد الأديان وتاريخ الفراعنة وأرض الحضارة ومفرخة العلماء والعظماء والقادة.. زمان الذي أقصده ليس بعيداً بل لا يعدو عشرون عاماً هي سنوات قضاها أقراني من أبناء جيل الوسط منذ دلفنا الحياة إثر نهاية رحلتنا الجامعية وإنغماسنا بحياة شهدت كثير من التحولات وتبدُل القيم ولعبة كراسي موسيقية هي الأقرب لوصف عالمنا المعاصر.

في هذا العالم، الكل علي عُجالة.. الزمن يهرول حاملاً لأربابه الجديد علي مدار الساعة.. صراع الحضارات هو في الأصل صراع الأجيال الذي نحياه اليوم.. صورة قديمة وتابلوه حديث.. أصول التربية الرشيدة وتقاليع الجيل الجديد.. مباديء نشأنا عليها ومفاهيم استحدثناهاا.. اللي تكسبه ألعبه.. وخدي بختك من حجر إختك.. وإيش ياخد الريح مالبلاط.. وعلي قد لحافك مد رجليك.. وكثير من الأمثال تدل علي مدي التدهور الأخلاقي والإنحدار الفكري والهوة السحيقة التي تفصل ما بين عالم كبرنا به وآخر نحيا بداخله.. تبدلت الصُور وتداخلت ألوانها.. ما عاد البياض عنوان نقاء وما عاد السواد حلكة والرمادي سيد الألوان.. خانة وسط ما بين المتناقضات وقاسماً مشتركاً بكل الصور.. لكل لون عدة معان ولكل كلمة مئة مدلول بحسب قالبها وإطارها والمعني الخفي وراءها.

اليوم، نأكل السوشي ويُدخن أغلبنا الشيشة.. القهوة أساسية صباحاً ومساء والأكلات السريعة الأفضل علي الإطلاق.. يأتي الصباح بتكدس لافت بطرقات المدينة وحتي منتصف الليل.. نهارنا كسل وتراخ وليلنا سهر وضجيج.. صيفنا ممتد بطول الساحل الشمالي وشتائنا استرخاء علي ضفاف البحر الأحمر بمدنه الفاخرة وطابعه الخاص.. اليوم، نعاني جميعاً أمراض الأمعاء وتدهور الجهاز العصبي وضعف المناعة وإنتشار الفيروسات بفعل نظام غذائي فاشل وسموم قاتلة نقبل بشراهة عليها ومياه ملوثة تسيل بعروقنا.. توتر دائم وعصبية مُفرطة وقلق زائد وردود أفعال تخرج دوماً عن نطاق المنطق من جراء تذبذب وإضطراب هو عنوان لعالمنا المعاصر.. الموسيقي صاخبة بلا ذوق والإيقاع سريع بلا جدوي والقصة المطولة خبر علي الإنترنت والخبر سطر علي تويتر.. الألوان صارخة والعنف يسود عالماً يهرول لملاحقة ما مضي وانتظار ما لا يجيء.. أصبح العالم قرية صغيرة وشبكة عنكبوتية تحيطنا بأسياج عالية من حديد صلب يصعب اختراقه.. فقدنا متعة الحوار فرسائل المحمول تفي بالغرض.. مفردات اللغة أمست حُروفاً مُشوهة وخليط من عدة لغات مفهومة فقط لأصحابها من أبناء هذا الجيل.. لغتنا الجميلة أمست موضة قديمة والألفاظ الخارجة ستايل والفرانكو آراب لغة رسمية للتخاطب. نجلس برفقة الأصدقاء بعد غياب فلا نتحدث بل ينشغل كل منا بعالمه الضيق وما بين البلاك بيرى والآي باد والفيسبوك، تتوه الكلمات فلم تترك لنا التقنية الحديثة سوي مزيد من الصمت وسكون أقرب للوفاة علي قيد الحياة.. لم تعد زيارة الأهل واجبة فالمحمول يكفي للسؤال ورسالة قصيرة تكفي لإلغاء موعداً قبيل حلوله.. لا قيمة للوقت.. هناك دائماً الحل البديل.. نعم، أصبغت علينا المدنية الحديثة مزيداً من الرفاهية والترف وأبداً يبقي السؤال.. هل نحن سعداء؟  وكيف تأتي السعادة بعالم طغت عليها المادة وتكسرت به أصول وأعراف نشأنا عليها.. اليوم، يتذمر الابن من أمه المريضة ويُعادي الأخ شقيقته طمعاً بميراث ويخالف الصديق ضميره لسبوبة.. نخون ونسرق ونكذب.. تتزوج الشابة كهلاً لأجل المال ويفني الشاب فحولته بين أحضان العجوز.. الشهامة ثمنها موبايل والكرامة لاب توب والشرف فيللا فاخرة والأمل سيارة آخر موديل.. في زمن الأطماع اللامُتناهية، تهاوت المعاني وإنحدرت القيم وتواري الصدق خجلاً وماتت بداخلنا المعاني السامية وقيم الأمس الجميل.

اليوم، نبكي ذكريات الأمس وقد محوناها بأيدينا ونجلس علي الأطلال نُنعي زمن الحلم الضائع وقمة هرم إنقلب علي أعقابه فتصدعت أركانه وتخلخلت الأرض أسفله.. دارت بنا فما صرنا نحن وما ما دام لنا زمان نبكيه ماضياً جميلاً وذكري لم تعد.. وهذا ما جنيته بيدي وما جناه علي أحد.. ما صنعته بذاتي وما أرغمني عليه بشر.. إننا من خلق الداء وبأيدينا الدواء متي أردنا.. معضلة والحل بسيط.. للخلف دروعودة للزمن الجميل.. جميل أن يتقدم العالم فيُضيف لحياتنا سهولة ويسر.. جميل أن تُصبح حياتنا أكثر ليناً وبهجة والأجمل أن نقطف من البستان وروداً تُضيف لنا ولا تأخذ منا فلكل عملة وجهان ولك أن تري الوجه الذي تريد كما تريد.. ومقابل كل سالب موجب وفي نهاية كل نفق مظلم بصيص نور لمن يريد.. كُن لصاً أو عالماً.. كُن صبوراً أو مُهرولاً.. كن ثلجاً أبيض أو أسود بحلكة الليل الدامس.. كن كما تريد ولك ما تريد.. ولا تلومن الزمن علي ما تأتي به يداك بل استمتع بما أردت يوماً وإجني ما صنعته وكان لك قمة النشوي وكل الأمل ومنتهي اللذة.. لا تقُل للزمان إرجع يا زمان بل إخلق لذاتك مكاناً ومكانة بكل زمان.

إقرأ أيضاً