نعيش القصة ونتعايشها.. نحيا تفاصيل أيام تنطوي وساعات طويلة تدق لتصمت وتمضي في صمت.. تمر فصولها شريطاً أسوداً أمام العين الدامعة والقلب الدامي. ونبكي.. تنسال العبرات آهات تشق حنايا الصدر الأجوف.. تبدأ الحكاية لتنتهي وتدوم القصة لتزول.. تضحك الأيام لتبكينا ويسعد القلب ليدميه أبداً لوعه الفراق. وعند الفراق، نبكي.. ونبكي.. وماذا يفيد البكاء؟ وهل يعود الماضي؟ وهل تكون الحياة؟ ولأن لكل بداية نهاية، تبدأ الحكاية لتنتهي ولأن لكل رواية خاتمة، تضع الفصول نهاية.. تروق أو لا تروق.. لا يهم.. فالأصل فيها كلمة فاصلة ونقطة نصل اليها ودوماً سنصل اليها في جميع الأحوال.

حجرة صغيرة يغلفها الظلام.. طاولة مستطيلة ومفرش أرجواني من الدماء السائلة ألماً وورود ذابلة تزين أطرافه المتأكلة.. فنجان القهوة الساخن.. موسيقي شوبان تنساب من جوف المذياع العتيق.. ضوء خافت.. مجموعة أوراق متناثرة أمامها.. قلم حائر بين السطور وقصة لم تتم.. مجرد قصة من ضمن القصص.. واحدة من تلك الحواديت القديمة التي طالما تناقلناها وسمعنا عنها وربما عشنا بعض أو كل تفاصيلها.. قصتها معه.. تتجرع تفاصيلها وحيدة بعد الفراق وتقاسي لوعة البعد وألم الذكري.. بالأمس كان واليوم وحيدة هي بدونه وذكرياتها وأيامها معه.. تفاصيل.. مجرد تفاصيل متناثرة.. مبعثرة.. مهلهلة.. أشلاء الماضي القريب تتدفق بقوة وتنساب مع الدمع الحائر والأنفاس الغائرة.. كيف كانت وكيف أمسي وأين أصبحا اليوم.. بالأمس، قصة عشق واليوم نهاية الحدوتة.. ولم لا تكتمل؟ وأبداً لا تكتمل وسؤال حائر حاولت جاهدة الاجابة عنه مراراً وتكراراً.. بدموع حارقة.. بعقل تائه.. بقلب حائر.. بحنايا نفس تقتلها الرغبة في رؤية الحبيب الغائب وشوق دافيء لأحضانه.. لهفة لا تهدأ ولوعة أبداً لا تموت.. لماذا افترقنا؟ تساءلت.. تعجبت.. استنكرت فبكت.. أهو القدر وأحكامه أم هي قدرة البشر المحدودة مهما بلغت.. القاصرة مهما طالت.. العاجزة مع اشتداد بأسها.. انها نفس القصة الكلاسيكية القديمة لذلك الفارس المغوار يعتلي فرسه الناصع البياض وست الحسن القابعة في صمت بانتظاره. ويأتي الفارس الهمام وتذوب الجميلة عشقاً وتبدأ قصة ككل القصص.. بداية تقليدية ونهاية درامية أكثر تشابهاً.. قصة.. مجرد قصة.. قصيرة أم طويلة.. لا يهم.. فالأصل فيها قصة ولدت للفناء.. ومن العدم جاءت لتعود أبداً اليه.. فلا عشناها ولا عشنا بدونها.. جمعتنا الصدفة وفرقتنا كل الظروف.. معايير العقل تحول والقلب التواق للحبيب فلا مضينا قدماً ولا تقهقرنا للوراء بل تهنا بليل طويل جمعنا معاً ومرارة في الحلق وغصة في القلب ودمعة متحجرة بين المقلتين وحفنة بالية من ذكريات!!

ولأنها من البشر، بكت.. قتلتها الذكري ومقتنيات صغيرة أمست لها اليوم كل الحياة.. وردة حمراء أهداها لها علي قارعة الطريق.. خطاب حب أرسله علي البعد.. أغنية في رسالة محمول.. لوحة جدار زيتية ابتاعاها سوياً من الدكان القديم.. محبرة قلمه العتيق وزجاجة عطر فارغة تعيد لها ذكري عيد الميلاد.. لحن صامت لسيمقونية الوداع.. لطالما كان الوداع شبحاً واهياً لم يدركا وجوده.. لطالما كانت النهاية بعيدة والخاتمة هي لها فقط كل البقاء. وعند نقطة سوداء، توقفت.. تحجرت الدموع المنسابة في صمت وسكينة.. نعم.. جاني هو وهي الضحية.. مذنب كل الذنب وهي العاشقة.. تحدت العالم لأجله وعندما فازت به، خذلها.. باعت الدنيا فباع بها كل الدنا.. أحبته فطعنها في الصميم وتفانت في غرامه قفتل فيها الرغبة في البقاء.. صمدت معه أمام الريح العاتية، فاقتلعتها رياحه من جذورها.. سؤال يتردد وعلامات استفهام تتعالي في دهشة ولهفة وكثير من التوجس واستنكار وتعجب وربما ريبة الواقع الأليم. أحقاً يوماً أحبها؟ أحقاً أخلص في هواها كما باعت العالم لأجله؟ أحقاً كان لها واقعاً ملموساً أم سراباً عاشت بين حناياه؟ أكانت له الحياة أم قصة عابرة.. وهم عاش فيه وأمل تمناه ولم يملك القوة الكافية لتحقيقه.. شأنها شأن بنات حواء وهو كل الرجال!!

واليوم، وحيدة.. تتذكره وأيامعها معه.. كم كانت جميلة علي قصرها.. قوية علي ضعفها.. شديدة علي لينها.. وكم كان الفراق سريعاً وما حسبته والبعد مهرولاً وظنته طيفاً يلوح في الأفق البعيد.. وكيف يقو علي الاقتراب.. كيف والحب في أوجه والعلاقة علي أشدها والتواصل رباطاً أبدياً وميثاقاً راسخاً وعهداً علي الحياة. ولأانها قوية، لانت.. ولأنها صلبة، خارت قواها.. ولأنها شديدة البأس، انهارت وبكت.. بحرقة سنوات عمرها وساعاتها بدونه.. بكت.. وسيل الدموع الحارقة ونحيب وآهات تشق صمت الليل الأجوف وجدران الحجرة الفارغة.. ومن جوف الحلكة، لمع وميض خافت من بعيد بيريق أخذ في الازدياد.. علت الشفاه الباكية بوادر ضحكة مجلجلة.. شقت جوف الظلام الدامس ومزقت صمت المكان.

كانت قصة.. مجرد قصة.. هكذا حدثت نفسها أو قل أرادت أن تحدث نفسها.. لكأنها أرادت اسكات دوي الصمت بداخلها ونبضات القلب المتعالية.. وكانت قصة.. وكانت لها كل القصص.. هكذا جاهدت لاخماد حدة التوتر بداخلها.. قلق كثيف ووجل ووهن وكثير من الضعف ورغبة عارمة في التمرد تجتاح جوارحها وتتلاعب بتلابيب النفس الممزقة. وفجأة وبغتة، كان القرار الحاسم والنقطة الفاصلة.. ولم البكاء؟ وعلام النحيب والشجن والأسي؟ ولم الدموع المنسابة ولوعة الفراق وألم الذكري؟ ولم البعد وأمامها كل الحياة؟ ومن كلماتها، جاءت ابتسامتها.. ومن ابتسامتها الضيقة، علت الضحكة مجلجلة رجت أرجاء المكان.. ومن أعلي قمم اليأس، بزغ النور وتدفق الأمل واشتد النور من حولها.. سأبحث عنه.. نعم.. سأبحث عنه.. سأذهب اليه.. سأجوب أماكننا القديمة وذكرياتنا.. وسأجده وأعيد الماضي قبل أن يذهب أدراج الرياح. سأبحث عنه.. بعقلي التائه.. بقلبي الثائر.. بروحي الشاردة.. وسأجده.. حتماً سأجده.. بين طيات الدني مختبأ.. في بقعة ما، سأجده.. وأبداً، سأعود اليه. ومع القرار، جاء نفاذه ورحلة بحث ممتدة وساعات طويلة خلف الحبيب الغائب وسلوي النفس الحائرة وظلام الليل الحالك يغلف أرجاء المكان وصمت الشوارع الخالية بعد منتصف الليل وشتاء المدينة القارس وسكون القبور علي أطرافها وغفوة ساكني أحياءها.

ومع خيوط الفجر الأولي، عثرت عليه.. كان بانتظارها أو كان بدوره يبحث عنها.. يسأل عنها الجدران الخاوية وأبواق السيارات في الضواحي النائية.. كان مثلها.. وحيداً، شارداً، متألماً وصامتاً.. في صمته كل العبر وفي عبرات عينيه الذابلة، كل الشمم.. علي شفتيها اعتذار وفي قلبه غصة وبينهما صمت رهيب وفجوة تتسع بقدر الشوق ولهفة اللقاء وحنين الأمس وسال الدمع ونحب القلب وأدمي الحزن العقل والوجدان.. تفجرت أشواق كامنة علي البعد وخامدة من أسي أيام طويلة مزقت المحبين وكان اللقاء.. وكانت العودة.. وكان الحب من جديد.. تلاقت الأرواح رغم المسافات والتحم شقي الرحي بعد طول غياب وتجددت قصة الأمس ليأتي النهار بويضه ونوره ويتركها للرحيل. كعادته منذ تركته، وحيداً يجلس كل ليلة.. في ذلك الشارع النائي بأشجاره الحانية الملتفة وعبير أزهاره وصمت أرجاؤه وذكرياتها معه.. جمعهما الشارع الصغير في لقاء عابر وكتب بداية قصة لم يكتب لها البقاء. ومنذ الفراق، يأتي ليتجرع أحزان الماضي في صمت مرير وألم قاس وحزن دفين. ومنذ الرحيل، يعيش علي الذكري ولوعة الفراق.. وعلي الدرب الفارغ الممتد، قبعت وحيدة في ذهول وريبة وكثير من الخوف.. تائهة من جديد وشاردة أبد الدهر بعيداً عنه.. تركها لضياع صنعته له وهجرها كما خذلته يوماً فهجرته وتركته وحيداً بلا مأوي ولا أمل ولا حياة!! تركها فارغة كما كانت دوماً بدونه. واليوم، لا أمل في لقياه أبداً من جديد وشريط الذكريات الأسود ينساب أمام العين المتحجرة ونبضات القلب تتصارع.. والأنفاس تتلاحق.. وصمت القبور من حولها يتعالي وتتراءي معها تلك الصور لحقيقة كامنة بداخلها وسر دفين وواقع صنعته بيديها.

نعم.. خذلته.. تركته.. هجرته.. وهو كل المني ومنية النفس الحائرة أبداً بدونه.. رفعته عالياً لتسقطه في هوة سحيقة وهو الأحوج اليها.. المتيم في بحور غرامها.. الشابح علي شطآنها.. وفي أوج الحب والتفاني، كان قرارها بالبعد عنه.. قراراً أخذته أو اتخذته.. أخذ ينمو بداخلها مختلقة كل التبريرات المنطقة والحجج الواهية لتأييده وتأكيده والتمسك به.. ظنت فيه العقل والتروي وهو الفناء في أبهي صوره.. ظنت فيه الحياة وكان لها انتحار فالأصل فيه انفصال لا تبغيه وخاتمة لا تبحث عنها. واليوم، شوق جارف في لقاء متجدد وعودة من جديد.. نعم.. هي الجانية وعاشت كمجني عليها.. انها الظالمة وظنت حالها مظلومة كل الظلم.. انها القاسية ورأت في ذاتها القهر والتقهقر وزبف الكرامة البالي صور لها الصورة كما أرادت أن تراها لا كما هي بالفعل.. ظل يشحذ همتها ويسن رماح بأسها نحو القرار. وعند القرار، سعدت بقوتها الزائفة وبأسها البالي.. فرحت لصلابتها الواهية وقرارها المزيف.. لتدرك مع الخاتمة كم كانت مخطأة.. الجانية وهي الحبيبة والذابحة وهى المذبوحة بيدها لا بيد القدر. وجدته.. ولم تجده.. يعيش علي ذكراها وهجرها فيأخذه الأمس وتتقاذفه رياح فراقها عنه لكنه، أبداً لا يلين.. تركته وهو الأكثر احتياجاً.. ودعته وهو الأكثر لهفة واشتياقاً وحباً وحناناً. واليوم تعود.. اليوم تبحث عنه.. وأبداً لن يعود.. فالماضي لا يعود.. والأمس يرحل بصوره دون أمل في لقاء.. ومتي حدث اللقاء، ربما كانت الذكري.. الحنين.. الشوق لماض قريب أو بعيد.. لا يهم.. لكنه أبداً لا يعود.. ربما تأخذنا اللهفة.. ربما يأخذنا الحنين.. ربما نحن لللحظات.. قد نلين.. لكننا أبداً لا نعود.

قصة محبوكة الأطراف.. سيناريو دقيق من واقع صور الحياة ورواية درامية رأيناها من قبل.. كم قراراً اتخذته في لحظة غضب وانفعال وربما طيش وثورة وغليان.. كم قراراً كان فيه العزاء وهو كل الأسي والضياع.. كم قراراً فرضت علي ذاتك التمسك به ليكون لك سكيناً أحمق تكيل به الطعنات لنفسك قبل الآخرين.. تحاول مراراً العدول عنه والتراجع فتأخذك مزيد من الكرامة والاباء وكثير من الشمم.. كم موقف خلقته أو اختلقته وكم ستاراً حديدياً من كبرياء أحمق غلف مشاعرك وأحاسيسك وربما انفعالاتك فأعمي القلب وأدمي العقل وأحرق الكائن الحي بداخلك مفضياً لموت بطيء مستمر وحسبته يوماً كل الحياة!! بالحب نحيا ونموت.. وبالأمل يبدأ اليوم وينتهي وفقط بالارادة يستمر.. يقتله التخاذل والتقهقر ومواقف غير مفهومة.. ندرك فحواها فقط مع الخاتمة.. ونري نتائجها حيت تقسو بنا أيام نحياها ولا نعيشها.. كم موقف بلا أساس وأساس بلا موقف وبناء عتيد ينهار وصرح يتهاوي بدعوة الكرامة الزائفة والكبرياء الأحمق. نعم، في الحب كرامة.. في العمل كرامة.. في الصداقة كرامة.. في الحياة كرامة.. ولأجل الكرامة، يتوخي الحذر.. كثير من الحذر.. لاتخاذ الموقف علي قدر الحدث وتضخيم الصورة فقط بقدر ما تستحق ورفع الراية متي استدعي الأمر وبذل الجهد فقط قدر المتاح.. والمتاح هو أبداً ما تسمح به النفس ويقبله العقل ويرضخ لأحكامه الوجدان الشارد فيستكين ويستريح ويهدأ.. ومع هدوءه، تأتي المواقف تباعاً فتمسي عقلاً ورجاحة وتزيد الحياة اشراقاً والحب بريقاً والأمل أبداً يتجدد بزهرة.. بكلمة.. بنظرة عتاب.. بدقة قلب.. ووعد بلقاء.

إقرأ أيضاً

أحدث المقالات

إعلن معنا

  • Thumb

الأكثر قراءة

فيسبوك

إنستجرام