نحاول كثيراَ التحلي بصبر تحول بيننا وبينه تصرفات وسلوكيات المحيطين ممن يتفنون فن استثارة الغضب والوصول بحالة الهدنة النسبية أو السلام الظاهري لمعركة دامية وانفجار مدوي يمسون أول ضحاياه والسبب كما أراه يكمن في كثير من الجهل بكيفية إدارة الأزمة مع قلة خبرة بالأشخاص أو المواقف وربما أحياناً العناد والكبر وكثير من اللامبالاه في أغلب الأحيان علي خلفية الجملة الشهيرة «متقدرش».

ويزداد الصبر وما هو سوي غشاء خارجي رقيق لحالة من الفوران وبركان ساخن علي وشك الإنفجار فيما يزداد تجاهل الآخر أو ربما عدم تركيزه سواء عن عمد أو بغيرعمد والنتيجة النهائية طرف يمضي مبتسماً ببلاهة والآخر قنبلة موقوتة وحرب وشيكة الإندلاع.

إنها تلك الحرب الباردة التي يجيدها البعض ويتقنها الكثيرين من هواة التأني قبيل المعركة لعل الأيام تأتي بحلول بديلة، إنها تلك الحالة التي يعتبرها البعض ضعف أو تخاذل أو عدم إدراك وأحياناً لامبالاة برغم انتفاء الأدلة المؤيدة فالقضية هامة وشائكة والصبر مفتاح الفرج لتفادي الخسائر قدر الإمكان وهو الأمر الذي يغيب عن ذهن الآخر ممن يتمادي قدماً وكأن شيئاً ما لم يكن. ومع تكرار العبارات ذاتها والتحذيرات نفسها وتفاقم المواقف وتكرار المشاهد وتداخل الصور، تعلو نبرة الإحتجاج وتتعالي عبارات الثورة ويزداد المشهد حدة وتأتي القشة التي تقسم ظهر البعير وتكتب الأحداث خاتمة لم يسعي أحد إليها من الأساس ولم يتماناها جاني يصبح بين عشية وضحاها مجني عليه.

وبين الجاني والمجني عليه، تتوه الحقيقة برغم الواقع الجديد فتبدأ مرحلة «أنا عملت إيه» و»فين الغلط اللي أنا السبب فيه» و»أنا اتظلمت» مع قليل من التحابيش علي غرار «حسبي الله ونعم الوكيل» و»بعد كل اللي أنا عملته تبقي مكافأتي كده» وغيرها من تلك العبارات التي تستثير المشاعر وتعزف علي أوتار القلوب مثيرة الشجن والحسرة وحملة تأييد لرأي عام لن يغير من الواقع فالقافلة ستسير ومن يتركهها لن يعوق مسيرتها علي الإطلاق بل سيترك خلفه بقعة سوداء ونقاط متناثرة من ندم وخيبة أمل ونهاية لفصل وبداية لحقبة أخري ستأتي بالنتيجة ذاتها ما لم تسبقها وقفة صادقة مع النفس وإعادة تقييم للمشهد وفقرة حساب خالص للوقوف علي الأسباب الحقيقية وتفادي النتائج ذاتها مجدداً.

تلك الصورة الذهنية هي واقع نحياه جميعاً علي الصعيدين الشخصي والمهني فما من أحد يضع نفسه ولو من باب التغيير بموقع المذنب وما من أحد يقرأ ما بين السطور ويفسر الظواهر بإحتمالية تداعياتها وما من أحد يلوم نفسه ويري فيها السبب في خاتمة لم يتمناها بل دوماً هناك شماعة لتعليق الأخطاء وسبب الفشل دوماً خارجي لا طائل لنا به ولا حيلة لنا إزائه فنحن الضحايا علي طول الخط، مكسوري الخاطر، مسلوبي الإرادة إزاء المارد الجبار والظالم المفتري وهو الآخر كما يحلو لنا أن نراه.

وللحق، موروثاتنا الثقافية والحياتية تؤكد النظرية ذاتها، «القطر فاتني» ولست أنا من تأخر عن موعده و»المنبه مضربش» ولست أنا من قام بإغلاقه وغيرها من تلك الجمل البسيطة التي نرددها دون إدراك لفحواها الحق وتأثيرها علي التكوين العقلي والنفسي لنا علي كافة الأصعدة في زمن ساده الجهل وقلة الوعي  وضعف الإدراك، ذريعته الأساسية شماعة يعلق عليها كل شيء علي فرضية ضرورة وجود سبب لكل شيء وطبعاً «السبب مش أنا» إنها دوماً «ظروف البلد» و»طريقة تفكير الناس» و»النظام السابق» في أبرز مثال علي سياسة الشماعة التي أصبحت حجة شرعية لتبرير فشلنا في تبني القضايا وجهلنا برغم جدلنا وفشلنا في تربية أولادنا وتحقيق أهدافنا وكل شيء وأي شيء.

«إتق شر الحليم إذا غضب»، مقولة نرددها جميعاً وصفة نلصقها بالكثيرون من حولنا ممن يصمتون ويتأنون فنري –عن غير حق- في استكانتهم تخاذلاً وهي في الأساس منتهي القوة والصبر والحكمة وكثير من التروي الذي نفسره برؤيتنا القاصرة ضعفاً وغيبوبة و»مش واخد باله» و»الحمد لله عدت». وبمرور الوقت، تصبح الممارسة عادة وفلسفة وأسلوب حياة ينتهي بنا لحالة اللامبالاه والإنفاصل عن الواقع والإنطلاق بآفاق بعيدة لا علاقة لها بالأمر الراهن فيما نجد دوماً ما يعضضها ويعزز موقفها ويشيد بها.

عزيزي المستهبل، هدأ من روعك، تمهل، لا تأخذك الجلالة وتري المشهد كما تريد أن تراه والصورة الذهنية كما يرتأي لك أن تحيك خطوطها وألوانها وتعبيراتها، بعيد أنت عن دور المجني عليه وشديد البعد عن ذلك الدور البطولي في تلك المسرحية الهزلية التي يحيكها خيالك القاصر مدعوماً بنظرية المؤامرة وفلسفة «أنا مش غلطان» وتلك الدائرة البللورية الجوفاء التي تقبع بداخلها رافضاً تبريرات العقل ومعتنقاً فقط مبدأ «أنا زي الفل هوه فيه أحسن من كده». عزيزي المنطلق بخيلاء وتيهة علي أرض يعيش عليها غيرك، عليك بقراءة المشهد من جذوره واعادة الأمور لنصابها واستخلاص العبر من الأحداث وقراءة ما بين السطور وتحليلها قبل أن تأتي الأيام بخاتمة لا تروق لك ونهاية لن تجد بها سوي مزيد من الحسرة والندم.

أدام الله علينا جميعاً نعمة العقل ورجاحته وشفافية القلب وقدرته علي اختراق حواجز النفس وقراءة الطالع قبل أن يمسي واقعاً نحاول تغييره وهو في الأساس نتاج أعمالنا وحصيلة ممارساتنا والمحصلة النهائية لسوء تقديرنا للغير والعالم من حولنا.

إقرأ أيضاً