لطالما أقنعت نفسي مراراً وتكراراً أنني لا أخاف.. ولطالما أخذتني الثقة بنفسي والعالم من حولي لتعلو –أبية- فوق ذلك الشعور الخفي الغامض الذي يغلفك بسياج حديدى من الريبة والاضطراب والقلق ويجعل من التواصل بينك والعالم المحيط ضرباً من المحال.. أو قل من الصعوبة بما يستلزم كثيراً من الجهد والتركيز والقدرة علي ضبط النفس الحبيسة داخل جدران ذلك الشعور الأليم.. داخل أسوار الخوف..!!

لكأن الشعور بالخوف عار علي النفس وشبح يطارد أقوياء هذا العالم.. نخاف من الغد.. من اليوم.. من ذكريات الأمس.. نخشى من نكره ونخاف علي من نحب.. نرهب المغامرة ويطاردنا شبح المخاطرة.. نأمن المألوف، التقليدي، المعتاد.. ونخاف كثيراً من التجربة.. من الجديد.. بل قل من التجديد.. نظرية “من تعرفه خيراً ممن تجهله”.. شعور مقيت بحب الثبات وإن كان جموداً والاستقرار وان كان قنوطاً.. والسير علي خط واحد وفلسفة راسخة لا تتغير وان كان يصاحبها كل الملل..!! في العمل، نخشي الانتقال من مكان لآخر.. فتضيع الفرصة.. في الحب، نخشي الألم.. فيتوه حلم السعادة.. في الزواج، نخشي الفشل.. فتطاردنا أشباحه فنضل الطريق.. وفي الحياة، نخشي الموت.. فتأتي النهاية.. ومعها.. نخشي البداية –دوماً- من جديد..!!

نستسلم لأحاسيس الخوف.. تملؤنا.. فلا نحلل أسبابها، ولا ندرك كنهها.. ولا نحاول التغلب عليها.. بل نرضخ لسطوتها وبطشها وسيطرتها.. وذلك المارد الكبير يسحق بداخلنا ذلك الهدوء النفسي وتلك السكينة المحببة وذاك الأمل في غد قريب.. يأتي أو لا يأتي.. وماذا يهم.. فالأصل في الغد، الأمل وكثير من السعادة في انتظار المجهول الذي ربما يغير الأقدار ويبدل الصور ويمحو الواقع الأليم.. أهو ضعف النفس البشرية التواقة –دوماً- إلى السهل والهين وكل المتاح.. أهي الرغبة في الشعور بالهزيمة أمام ذلك المجهول.. أياً كانت صوره وملامحه.. أم هي تلك الرهبة القوية في فقدان ما نحب وما نملك وما نخشي فقدانه.. أم تلك الأسباب جميعاً مجتمعة في بوتقة واحدة.. تختلط داخلها الأوراق وتتشابك بباطنها كل الصور.. فتكون الحصيلة النهائية مزيداً من الخوف..!!

ودوماً نتخيل ما لا يمت للواقع بصلة قوية.. نري القوي شجاعاً، ونري الضعيف أجبن الجبناء.. نري الصلابة في التبلد مناهضة في ذلك الشعور بالقلق والثقة دواء لشعور الخوف المرضي والإيمان أساس لطرد الخوف من القلب والهواجس من النفس والعقل والوجدان..

وللحق، في تلك النظريات وغيرها كثير من الصواب لكن يشوبها بعض الأخطاء وكثير من المتناقضات اذ يعتقد البعض أن الخوف شعور سلبي وعرض مرضي كريه ينبغي العمل بشدة علي التخلص منه.. يظلمون الخوف بخوفهم منه.. يجورون –بالحكم الجائر- علي ذلك الشعور الذي يدفعنا، برغية قوية، في الحفاظ علي ما نملك وكل من نحب.. فالخوف ليس كله ضاراً بل قد يصبح –في بعض الأحيان- شديد الايجابية إذ يدفعنا لمزيد من الثقة والتفاؤل.. فالخطأ إذن في التعميم والنظرة الشمولية والتصنيف المطلق دون وعي وإدراك كامل للتداخلات والتشابك بين المفاهيم والأحاسيس والأفكار..

وللحق أيضاً، الخوف شعور يحوي بين طياته كل المنتاقضات.. سلبيات كثيرة وكثيراً من الإيجابيات.. والعديد من مواطن القوة والضعف المتداخلة.. يدفع حيناً إلي التقوقع والانغلاق والجمود والثبات، لكنه أيضاً يبث بداخلنا الرغبة في القتال والصراع ومحاربة ما نكره والمحافظة علي كل ما نحب.. شبح الانفصال قد يدفع المحبين لمزيد من التواصل في رغبة أكيدة لتخطي العقبات وإزالة الخلافات قبل أن تتفاقم وإذابة التفاصيل الصغيرة قبل أن تتحول لمعضلات يصعب السيطرة عليها.. خوف الأم يدفعها إلي الاقتراب من وليدها، لتصبح أكثر تفهماً واستيعاباً وتواصلاً.. خوف رسوبنا فى الامتحانات صغاراً دفعنا للنجاح وخوف الفشل يدفعنا كباراً لكثير من التفكير فيما يهد المعبد، ويشوه الصورة، ويقود للانهيار في نهاية الأمر.

إلهي.. أيكون الحب أساس الخوف.. ولم لا.. والرهبة نتيجة طبيعية لشدة الثقة والإيمان.. فمن فرط إيمانك بذاتك، تحيطها بكل ما تحب وتحول بينها وبين الأذي والضعف والهوان.. ومن شدة تعلقك بقضايا وإيمانك بمباديء ومعتقدات، تبذل الجهد لتظل حقيقة وتحول بين هبوطها في طيات النسيان.. ومن شدة ثقتك بالغد ومعطياته، تأتي الرغبة في الخفاظ عليه ببذل الجهد في الحاضر والمحافظة علي الماضي ليأتي صباح جديد بأمل سعيد وبداية تتجدد مع كل شروق..

أما ذلك الخوف الذي يخشاه الجميع، فهو الشعور المرضي بالهزيمة الذي يحول دون تحقيق النصر.. ونفس الشخص قد يحمل –بداخله- الوجه الإيجابي للخوف وصورته السلبية في نفس الوقت.. إذ هما في الأصل وجهان لعملة واحدة.. فالأم التي يدفعها الخوف إلى الاقتراب من وليدها، قد يدفعها الشعور ذاته إلي خنقه ومنعه من الاستمتاع بأيامه.. والزوجة التي تكن كل الحب لرفيقها قد تضيعه بالرغبة في السيطرة عليه، ويدفعها لذلك خوف مرضىاً ومزمناً من فقدانه.. وقديماً كانت جدتي رحمها الله تردد علي مسامعي “من يخشى العفريت، يراه”.. كانت امرأة قوية لا تهاب الحياة وتعيش بكل جوارحها في انتظار الغد حتي تعدت السبعين ولا تزال تحلم بالمستقبل بعد أن أصبحت –في عمر الزمن- ماضياً وذكري.. وكانت تلك المقولة من أصدق وأثمن ما سمعت تعبيراً عن ضرورة تحويل الخوف المرضي الانهزامي إلي قوة بناءة وطاقة نور بأن تدرك الخطر وتعمل لإصلاحه بدلاً من الاستسلام له..

معركة علينا خوضها ببسالة وصبر وكثير من الحكمة.. سلاحنا فيها إرادة وعدونا نفس ضعيفة وقلب يتوه مع تضارب المعطيات من حوله.. معركة ينتصر فيها فقط أقوي الجبناء وأشجع الخائفين.. لا تخش الظلام الدامس، فستنفرج خيوط الليل حتماً لتبدو منها خيوط الفجر الأولي.. لا تخش الفشل، فمن جوفه، تأتي بدايات النجاح.. لا تخش المغامرة أو قل المقامرة، فالحياة خلقت منها ولها.. لا تخش الغد فهو يوم جديد.. ولا تخش شبح الأمس، فهو ماض ولي ومضت معه كل الذكريات.. والذكري طيف.. والنسيان نعمة أصبغتها علينا إرادة قدر عادل.. ولتسعد باللحظة قبل أن تمضي.. وبالفرح قبل أن يزول.. وبالابتسامة قبل أن تولي.. وباليوم قبل أن يصبح ذكري.. وبشعور الأمل اللذيذ قبل أن يمسي وهماً وسراباً نبكي أدراجه.. فالغد قادم لا محال.. يحمل الخير أو الشر.. ما يرضيك وما يسوءك.. لا يهم.. فالأصل فيه غد جديد متجدد.. ويوماً آخر في أجندة الحياة.. فيه الحزن يأتي حتماً ان كان قدراً.. فلم الانتظار.. لا تستعجل.. ستحزن حينها بما يكفي.. وتخسر السعادة إن جاء الغد بالفرح.. ولتعلم دوماً أن حكم القدر نافذ لا محال ومكتوب علينا الانصياع له.. فلا تدعه تعبث اليوم بما ستحياه غداً .. فلن نغير الأقدار مهما بلغت قدراتنا.. وأبداً لن يبدل الخوف من المصير المحتوم.

تلك السطور أكتبها إليك.. ونفسي قبل الآخرين.. رسالة حب وأمل أبعثها إليك.. تدهشك قوتي وإيماني المطلق بالقدر.. أخاف.. أحياناً.. كثيراً.. بل قل طوال الوقت.. لكنني أبداً لا أدع الخوف يتملك نفسي القوية الشامخة ودوماً أخلق منه مفهوماً آخر وأستلهم منه تلك القدرة البناءة والإرادة الخفية التي تدفعني لمزيد من المثابرة والمكابرة وربما العناد.. للمضي قدماً.. ولماذا أخاف..فحكم القدر نافذ لا محال.. ولماذا أخاف.. ورهبة الموت –دوماً- تقتل بداخلنا فرحة الميلاد..!!

إقرأ أيضاً