كبر الأولاد.. انشغل الزوج بأعماله.. أعباء الحياة اليومية تأخذ في التناقص.. الحياة تتسع أمامي ومزيداً من الفراغ.. سنوات العمر الباقية ترحل في صمت هاديء.. جدران المنزل الخاوي تجمعني وحيدة وفراغ قاتل يعتصر أيامي الطويلة، يطفئ الشموع المضيئة ويقتل ساعات عمري الحائرة بدون أليف. منذ قرابة ربع قرن من الزمان، ربما أكثر قليلاً، كان لي هذا القرار المصيري بالتفرغ للبيت والزوج والأولاد.. تركت عملي الذي أحب والمستقبل المهني المرموق البادي في الأفق البعيد بشهادة المحيطين.. حصرت حياتي الاجتماعية المتسعة وقصرت نشاطاتي في إطار المتاح وسط خضم الأعباء المتراكمة.. رضخت طواعية لصوت داخلي وقرار حر بالتفرغ لحياة أسرية واعدة.. زوج شاب في مقتبل العمر وقمة الطموح.. أطفال صغار بحاجة ماسة للرعاية وكثير من الأعباء المنزلية والأسرية والاجتماعية وحياة اتسعت آنذاك أمامي دون قيد أو شرط أو حدود!!
انطلقت سنوات العمر تهرول حيناً وتركض في كل الأحيان.. مرح، ضغوط، سعادة، شقاء، بصيص من أمل وكثير من الإحباطات.. ببساطة.. حياة!! المهم، تخرج الصغار فى الجامعة وانخرطوا في طموحات معنية وحياة عملية تأخذهم بعيداً يوماً بعد يوم.. اتسعت أعمال الزوج، رجل الأعمال المرموق وزاد معها سفره وغيابه عن المنزل والبلدة بأسرها.. قلت أعباء المنزل فما عاد الصغار بحاجة لمتابعة اليومية واستذكار الدروس المدرسية مع قرب الامتحانات وإعداد الطعام الذي أمسي عملة نادرة في منزل ركض أصحابه خارجه فما عاد يجمعهم سوي لقاءات عابرة في المناسبات الرسمية حيث لا يمكنهم الفرار. ومعها، اتسعت الهوة بيني والعالم من حولي. توطدت صداقة عميقة بيني والتليفزيون، أنيس الوحدة ورفيق الليالي الطويلة الخالية إلا من ضوئه الخافت الهاديء.. نشأت ألفة قوية بيني وجميع الجرائد اليومية والأسبوعية وإصدارات المجلات المختلفة لتمسي همزة التواصل الأساسية بل قل الوحيدة بيني والعالم الخارجي.. تقلص دوري ليمسي شاغلي الأوحد متابعة الخدم الذين زادت سعادتهم بتناقص عدد من يقومون علي خدمتهم، مع تقلص عدد ساكني المنزل الدائمين لأصبح وحدي الزبونة الدائمة أو قل، الحارس الأمين للمنزل الذى اتسع وزادت طوابقه الفاخرة بثروة أصحابه علي خلوه شبه التام منهم!!
وسط تلك التأملات وغيرها، أخذتني الدهشة وكثير من علامات الاستفهام والتعجب المتداخلة تتراءي أمامي.. أنا فين؟؟ أنا مين؟؟ ولماذا؟؟ أين أمسيت وسط خضم تلك الحياة العارمة؟؟ ولماذا أضحت حياتي علي هذا النحو؟؟ ذهب الأصدقاء فما كان لدي الوقت الكافي للتواصل معهم.. ولت الطموحات المهنية وأين كان الوقت الكافي لها؟؟ ركضت الأيام لتلتهم معها سنوات الصبا والشباب وأجمل سنين العمر.. وعند النهاية، أجلس وحيدة.. بإرادتي أو رغماً عني.. كان قراراً واختياراً.. في نقطة فاصلة من العمر.. كان القرار بالفرار من الحياة واليوم أبحث عنها دون جدوي وأمل في الوصول!!
وتثور نفسي الهادئة.. تتعالي آهاتها وتدوي صرخاتها المتعالية لتزلزل أرجاء الروح والقلب والوجدان.. تتمرد.. تتشتت.. تيأس وتنهزم فتنكسر وتتهاوي أدراج الرياح..لماذا هزمتني الحياة وكانت يوماً ما تفتح لي ذراعيها بكل الحب؟؟ لماذا خذلتني أيامي وما حملت لها سوي رغبة دفينة في وهم السعادة المنشود؟؟ لماذا أجلس وحيدة والكل يتحرك حولي؟؟ لماذا أتجرع وحدي مرارة الهزيمة وقد وهبني القدر كل ما شئت وأكثر مما رغبت!! لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا تثور نفسي بعد العمر.. وتعلن التمرد بعد سنوات متتالية من السكون والألفة ولحظات السعادة الخاطفة.. ولماذا كل هذا الصمت المميت وتلك الرتابة القاتلة والحياة تعج من حولي بالمارة. والطرقات لا تخلو من الوافدين.. وليل المدينة يمتد حتي الصباح. والضجيج لا يهدأ ولا يكل!!
ومن جوف الثورة الجوفاء وبقوة الإرادة. تمردت نفسي علي نفسها.. سأعيش.. نعم، سأعيش.. فالحلم بداخلي لن يموت وتلك القوة الخفية التي منحتني يوماً ما الصلابة والبأس ستهب اليوم لي الحياة.. ما بالي بالأولاد وقد كبروا.. وما بالي بزوج شغلته أرقامه عن رفيقة أحلامه.. وما بالي بمنزل خاو وجدران باردة.. سأنطلق في الطرقات.. سأعبث بما تبقي من العمر قبل أن يفل.. وسأبث داخلى الحياة قبل أن تقتل في رغبة الحياة!! سأبدأ من جديد.. نعم، سأبدأ من جديد. ما أجمل البداية بعد سنوات التعب والانكسار.. ولم أسميها هزيمة.. فلأسميها مرحلة.. لأبدأ بعدها في مرحلة أخري.. حقبة جديدة.. نعم.. سأبدأ من جديد..!! ومن جوف صمتي، انطلقت عبراتي وكلماتي وقراراتي.. سأعمل.. إمكاناتي العالية كانت يوماً محط الأنظار.. سأتواصل مجدداً مع الأصدقاء وكنت فيما مضي محور لقاءات الرفاق ودينامو الاجتماعات.. ما بالي بتلك الشعيرات البيضاء تغزو الهامة السوداء.. سأعيدها إلي سوادها.. ما بالي بغلام أنا أمه وشابة هي مني تأخذها أيامها بعيداً عني.. ومابالي أيضاً برفيق الرحلة الحاضر الغائب، ملكته دفاتر شيكاته فزادته ثراء وزادتني فراغاً ووحدة وهموماً متراكمة.
في رحلة البحث مجدداً عن البداية، مرت بي الساعات بطيئة والأيام طويلة.. بدت الأهداف بعيدة، صعبة المنال.. فرص العمل المحدودة وقدرتي الضئيلة علي احتمال ضغوط لم أعتدها.. أصدقاء الأمس أخذتهم الحياة.. تباعدوا وما عاد لهم من الأمس سوي حفنة من ذكريات تناقلناها حتي نفدت ونفد معها مخزون الماضي وقل معه التواصل والاتصال.. فصلت الحياة الماضي عن الحاضر فأمسي الأمس القريب بعيداً، واهياً.. مجرد طيف يلوح في الأفق.. عدت من جديد وحيدة.. شهور طويلة أمضيتها في محاولات مضنية لإعادة عقارب الساعة للوراء لتفاجئني حقيقة أخري.. الماضي لا يعود.. الأمس ولى بكل الذكريات.. فالحاضر يوم جديد والغد طيف يلوح بما تريد أو لا تريد!! عدت لجلستي السابقة.. وحيدة، ودوماً تائهة.. حزمة الأوراق الصفراء البالية أمامي وقلم يبلي من تدفق الخواطر السوداء.. صور قديمة أتصفحها.. وورود ذابلة أتذكرها.. ذكريات.. ذكريات. ما عاد لى من الحياة سوي حفنة بالية من الذكريات!!
ومن جوف ألمي، تراءي لي بريق من بعيد.. ولم اليأس والهزيمة والانكسار؟ ولم أراها رحلة خاوية وجهد ضاع سدي؟ أما يحسدني الكل علي حياة مترفة، وأولاد ناجحين وزوج وفي؟ أما يجد المحيطون في حياتي كل السعادة وقمة النجاح؟ ولم التعاسة وكل ما حولي يبعث علي البهجة والانشراح؟ لعلها تلك القناعة الغائبة والرغبة الدائمة للحصول علي كل شيء.. اخترت الراحة واليوم قادتني للوحدة.. فلكل من رفاقي حياته.. لعلها نسبية السعادة واختلافها من حقبة لأخري.. فما يسعدك بالأمس، يشقيك اليوم.. وما تري فيه بالأمس كل الأمل، يتبدل مع تبدل الصور من حولنا. واليوم، فلأقنع بحياتي فهي اختياري بالأمس.. ولأهنأ بأيامي، فهي نتيجة كفاحي المتواصل، ولأغير من نظرتي للعالم من حولي فما عاد الصبا.. وما عاد الشباب.. وما عاد ما كنا نتوق إليه في الماضي ونعتبره مصدراً لبسمة اليوم وفرحة الغد.. فلأحلم بالأحفاد.. ولأهنأ بثرائي وترفي وأبنائي من حولي.. ولأنير الشموع من جديد لتبث الدفء في جدران المنزل ولألملم شتات الأسرة عوضاً عن التحسر لفقدانها.. فالأمس ولي.. واليوم ماض.. ولغد قادم لا محال.. ولأذكر دوماً أن القلب من التقلب والإنسان من النسيان فقناعتي بحالي سر سعادتي وأملي الحقيقي هو ما أراه بالفعل وليس ما أتوق إليه!!