خدعوك فقالوا «اجمد وخليك راجل».. عشنا سنوات طويلة في خدعة صنعها الرجل وآمنت بها النساء وتوارثتها كل الأجيال.. الصلابة.. القوة.. البأس والحزم من شيم الرجال.. إحساس رفيع بالمسئولية وتقدير كامل لكل الأمور.. صفات أساسية يتوارثها الرجال جيلاً بعد جيل.. من الأب لابنه ومن الأخ لأخيه ومن الجد لأصغر الأحفاد. وللحق.. صدقنا الوهم وعشنا الأكذوبة وآمنا بها إيماناً مطلقاً.. شاهدنا «سي السيد» قولاً وفعلاً.. في دار الخيالة وعلي أرض الواقع.. آمراً، ناهياً.. شديد البأس والعنف وصوته الجهوري يملأ أرجاء المكان.. آراؤه صائبة.. أقواله مأثورة.. أحلامه أوامر نافذة.. حضوره يشار إليه بالبنان.. قروناً طويلة أقنع فيها آدم حواء بأنه الملاذ والملجأ.. سيد الموقف وحكيم زمانه.. وآمنت حواء.. وبناتها من بعدها.. فانصاعت وانقادت وسلمت زمام أمورها لكائن هو في الأصل مجرد رجل!!

ولأن حواء بطبيعتها مسالمة، قنوعة، صادقة، تعاملت معه بكثير من الصدق.. تفاعلت مع أكاذيبه.. أحبته فأخلصت له.. زاملته الكفاح فشدت من أزره.. شاركته الحياة مرها قبل حلوها وشرها قبل خيرها لتستيقظ ذات صباح علي حقيقة الصورة وأصل الحكاية.. أمخدوعة كانت أم هي الخادعة.. أبريئة أنت حواء.. أم أنت الغافلة!! مسكينة حواء.. مضي قطار العمر لتكتشف قرب النهاية تلك الخديعة وتتجرع وحيدة مرارة الندم وقسوة الغفلة.. ولأن بنات حواء اليوم لسن كأمهاتهن الأوئل، فقد أعلن الثورة.. شحذن الأسلحة.. تذرعن بالدروع وأعلن الحرب علي كل الرجال.. ومن معركة حواء، تلبدت السماء.. تشابكت أطراف الحلقات.. سقطت كل الأقنعة وبدت الحقيقة عارية فلا أمسى آدم ولا أصبحت حواء!!

«الدنيا اتلخبطت».. حقيقة ساهم آدم فيها وحواء أكملت المسيرة.. أصبحت عائل الأسرة وأمسي مربي أطفال.. فلا نعمت بالاستقلالية ولا أجاد هو سوي تربية جيل من الضائعين وواقع أليم نحياه جميعاً اليوم.. فيه كل المتناقضات والأساس صورة باهتة لذلك لسى السيد صاحب الصولات والجولات تتراءى أمام عينى آدم كلما ثار على واقعه الأليم ولوحة زيتية قديمة لأمينة الذليلة الخاضعة ترفضها كل النساء والنتيجة مزيد من التخبط والتلعثم والضياع.. عقارب الساعة تنبيء بغد يعود للوراء وأمس يقتل حاضره وكوارث اجتماعية أصبح روتيناً نكتب سطوره بمزيج من الحبر الأسود ودموع الحسرة علي زمن ولى نأمل يوماً أن يعود.

وللحق أساء سى السيد لمعشر الرجال أجمعين ولم يعل من مراتبهم.. هبط بكينونة آدم ولم يسمو بها.. أحط من شأنه ولم يعلو به فالأصل فى سى السيد الأصالة والشهامة والأصل فى أمينة ذلك الضعف الأنثوى الذى هو فى الأساس منتهى القوة!! رحم الله كاتبنا الكبير نجيب محفوظ حين جعل من سى السيد كائناً، لاهياً، عابثاً.. رجل ليل ومعشوق الغانيات وجعل من أمينة نموذجاً للذل والمهانة والانكسار ومثلاً تكرهه كل النساء.. ربما مجرد طرح لصورة عاشت فى هذا الوقت وربما صرخة استغاثة وتنويه عن ذلك التابلوه المتناقض الذى عاصره محفوظ يوماً ونرفضه اليوم. ولأن المثل الصينى قالها بوضوح «تربية الطفل تبدأ قبل مولده بعشرين عاماً وذلك بتربية أمه» فالعيب عليك يا أمينة والعيب على كل حواء.. نربى أولادنا صغاراً كما لا نحب أن نراهم كباراً.. نرسخ فى أذهانهم نفس الصورة التى نرفضها فيما بعد.. «البنت بنت، والولد ولد».. المنزل مسئولية الفتاة وحدها والانطلاق خارجه حق مكفول لكل صبى.. وحين يشب الغلام رجلاً، نطالبه بما لا يطيق.. «ساعد زوجتك المنهكة».. «دللها فهى في حاجة إليك».. «شد من أزرها فهى مخلوق ضعيف وإن بدت غير ذلك ودائماً في حاجة إليك».. ويتوه آدم ويتعامل مع الحقوق المكتسبة على أنها فلسفة الحياة وأصول راسخة للكون وتشكو حواء من ظلم آدم وتعنته. والنتيجة، مزيد من التخبط.. تنهار جدران المنزل وتتفتت الحياة وتستحيل. والسبب دوماً تفاصيل دقيقة.. حلقة مفقودة.. يصعب معها سير الكون بسلاسة ويسر وينشأ جيلاً جديداً تربيه حواء علي أهوائها ويساهم فيه آدم بما يتمنى أن يكون ومزيد من التلعثم بين حروف كلمات ندرك مخارجها ولا ننطق بها.. أفكار نتوارثها تظل حبيسة بداخلنا.. تنفجر في ثورة صامتة أو ساخطة إذا لزم الأمر وشاءت الأقدار.. وتشاء الأقدار.. فالإنسان مسير لقدر يخطه بيديه، لكنه أبداً يختار ويحتار وينتهى دوماً إلي قرار.. والقرار الأسهل، انفصال طرفى المعركة ورحيل آدم فى صمت وبكاء حواء علي عمر يمضى براحة لا تخلو من المرارة وهدوء يشوبه كل الضجيج.. وأحياناً، يكون الانشطار راحة ونهاية رحلة لابد لها من خاتمة لتأتى مرحلة جديدة من السعادة أو وهم السعادة المزعوم.. ودوماً يبحث الرجل عن سى السيد المزعوم وتهرب حواء من شبح أمينة الظالمة لنفسها وبناتها من بعدها والحل ليس دوماً فى التدمير.. الأسهل أن نهدم الأساس والأصعب أن نقيم القواعد ونشد من أزرها.. والسؤال لكل أم.. لم كل هذا التناقض.. لم تلك التفرقة العنصرية بين فتاة صغيرة وغلام لا يدرك من أبعاد الحياة سوى حدود أمه وأبيه.. علمتيه أن عليه إعالة العائلة فتحول مع مرور الوقت لمصدر تمويل.. لقنتيه أن التدليل والدلع مفسدة والدمع ضعفاً والفضفضة ليست من شيم الرجال. وصار رجلاً وهفا قلبه لفتاة أحلامه فانبرى مطبقاً كل النظريات والمدارس الأزلية العتيقة فمن أحق من أمه بالمشورة ومن أقدر من أبيه علي الإرشاد وكثير من السحب الملبدة بالغيوم السوداء طفت علي صفحة منزل تحت الإنشاء. رحم الله جدتى، كانت تطالب أبى لابنتها بما تمنعه عن زوجات أبنائها.. تجمع الصيف والشتاء في فصل واحد فلا أصبح الصيف ولا جاء الشتاء.. يشكو الرجل من تحوله التلقائى لخزينة نقود، دفتر شيكات، حساب جار.. وتشكو المرأة من كونها كماً مهملاً، يحيا بلا أمل ولا نبض ولا إحساس.

ولأن نموذجي أمي وللحق إنها إمرأة رائعة.. أرتنا صورة جديدة لسى سيد وأمينة.. ضعيفة هى فى مشاعرها.. قوية دوماً فى الحياة.. وهبت لرجلها كينونته لتستمد منه كل الحياة!! لم تنكر على أبى دموعه عند الحاجة وشهدت له بكل القوة فى مجابهة الأيام. ومن أمى وأبى، جاء أخى.. رجلاً متوازناً ونموذجاً تحسد امرأته كل النساء.. سلسلة متصلة تتوارث حلقاتها جيلاً بعد جيل.. ليت حواء الغافلة تراجع أوراقها وتعود بالرجل أدراجه.. تنسى ضعف أمينة الظاهرى وتدرك بحق أن ضعف المرأة قوة وصوت سى السيد الجهورى هو نبض الحياة.. خط سير القدر المحتوم وقانون الطبيعة الصارم.. نعم «الرجل رجل» و«الست ست».. ولكن أين هذا الرجل وأين هن كل النساء!!

إقرأ أيضاً