قالوا لا كرامة في الحب وقالوا أيضاً لا حب بلا كرامة.. تغنوا بكبرياء الحب وتعالوا بها عن الحب  ليتنازلوا عنها أيضاً لأجل الحب.. وبقيت الدائرة المفرغة وظل السؤال الحائر بلا إجابة ودامت الحيرة.. علامة استفهام.. ربما تعجب ودوماَ تساؤل.. ظل الكائن علي عهده.. حب بلا كرامة وكرامة بلا حب!!

الحب تضحية.. لقاء وفراق.. تواصل وهجر.. تلاقى وبعاد.. الحب أمل ويأس.. سعادة وشقاء.. قهر وانتصار.. رفعة وانكسار.. نصر في هزيمة وسم قاتل بين ذرات حلو العسل ورحيق الزهور ودوماً نقطة في منتصف الحلول وحرف شارد في كلمة ضلت جملتها بين المتناقضات.. الحب وثيقة تنازل أبدية عما تحب لمن تحب وكل ما تحب لمن يهواه القلب ويشتهيه الوجدان وفؤاد شارد أبداً بحثاً عنه.. الحب تنازل دائم عن الفرعيات مهما بلغت وربما الأساسيات أيضاً وربما كل الحياة ودوماً لأجل الحب ومن تحب.. في مجمله، صراع دائم بين الذات وماهيتها وأهوائها ومن تحب.. بين حاضر تحياه وأمل بعيد يلوح سراباً أو حلماً.. بين خيوط تمسكها بيديك وأمل تائه في فضاء رحب يجمعك وخيالك ومن تحب.. لحن شارد لسيمفونية أبداً لا تكتمل ومقاومة دوماً لا تتم.

نتنازل في الحب.. نتهاوى.. كثيراً ما نتهاوى أمام الحبيب.. نذكر قصص التفاني وإنكار الذات وأساطير العشق الأبدي الخالد.. نتنازل في الحب فتأخذنا التضحية بكل عزيز وغالي.. ومن الحبيب يأتي البأس والقوة والصلابة ومن دفق المشاعر الجياشة، تأتي الشدة وكثير من الإصرار والرغبة في التحدي.. تحدي الذات قبل الآخرين.. حقيقة لا ندركها أو قل لا نبغي إدراكها إذ تجرحنا حقيقتها.. نرى في التضحية سمواً ورفعة ونصراً دائماً على شيطان النفس المتمرد.. نرى في التراخى والتخاذل كثيراً من القوة وتصالحاً دائماً مع الذات.. نأمل في الحبيب.. نرى فيه رفيق الغد الباسم بإشراقة الأمل والحلم الأتى لا محال ونرى في الحياة حلماً يأخذنا ومزيداً من التنازل وكثيراً من التضحيات.. تأخذنا الحياة ودوامة المشاعر المتشابكة والأحاسيس المتداخلة والمتناقضة في أعلب الأحيان.. تمر الساعات.. طويلة أو قصيرة.. لا يهم.. فالأصل فيها وقت يمر وحلم قد يتحقق ولا يتحقق في أغلب الأوقات. وفقط، عند نهاية لا نرضاها، ندرك كم كان الثمن باهظاً وما أدركناه وكم كانت التضحية بالغة وما قدرناها وكم استسهلناها وكم كانت الكرامة غالية ولأجل الحبيب أضعناها!! عندها فقط، نبكي وما يفيد البكاء.. نحزن ومتى أعاد الحزن غالياً ولى وسنوات انطوت.. أيعيد الأسي العمر الضائع سدى.. والكرامة باسم الحب المهدرة أم يمحو من القلب لوعة الفراق وفداحة الثمن الذي دفعناه طواعية بكل قناعة ورضا.. فقط باسم الحب.

ولأننا نستعذب العذاب، نتعذب.. ولأننا نهوى النسيان، ننسي الدروس المستفادة وقصص الأصدقاء.. تقسو الظروف حولنا فيشتد بأسنا الزائف وصلابتنا الواهية ونرى أو نخلق بداخلنا تلك القوة الخفية والكافية للصمود.. ومزيد من الصمود.. ومع الضغوط وشدتها وتصاعدها، يزداد بأسنا وتقل حيلتنا حيالها.. نلين.. نضعف.. نتخاذل.. فنقسو على نفس حائرة وقلب مكلوم وروح هائمة.. حائرة.. مشتتة.. ممزقة.. مقهورة بسهام الحب.. مكسورة بسيوف مشاعر خلقتها فأماتتها وبثت فيها الروح لتهبها للفناء.. وأبداً إلى زوال.. ونضيع.. ويضيع معنا بقايا من أمل وحفنة من كرامة مزقتها على أقدام الحبيب.. كثير من كبرياء نثرناها رماداً أسود في محراب مشاعر ابتلعتنا فأسعدتنا لوهلة وشقيت بنا لتشقينا كل الحياة.. ونتوه.. وتتوه معنا سنوات العمر الضائع.. عندها فقط، تكف عقارب الزمن عن الدوران.. تموت الساعات خنقاً بثوانيها البالية.. ويصمت من حولنا ضجيج الطرقات وأصوات الحياة!!

الكرامة والحب.. وجهان لعملة واحدة لا يجتمعان ولا يمكنهما أبداً الافتراق.. أصل وصورة وصورة وأصل.. من فيهما الصورة ومن بدون الآخر أصل مستقل! سؤال بلا إجابة.. وثيقة أصلية وصورة كربون.. فعل ورد فعل.. كلمات متقاطعة تنقصها كلمة ونوتة موسيقية ينقصها حرف ليكتمل اللحن.. بالحب نحيا سعداء وبالكرامة تعيش بداخلنا ذات صامتة تتغذى على ذلك الشعور الدفين بالكبرياء.. يمنحنا الحب الثقة بالغد وأمل مشرق يتجدد وتدفعنا الكرامة لمزيد من التشبث بتلك الهالة السحرية التي تحيط بنا وذلك المارد الكامن في هدوء بين الحنايا.. تهبنا الكرامة الشعور بالثبات والثقة والكبرياء فتشتد خطواتنا بأساً وتعلو هامتنا شامخة فتنفرج الأسارير وتزداد القوة ويشتد المضي قدماً حيال غد آت لا محال.. ولم لا يأتى وبداخلنا كل القوة على تحقيقه.. نعلو ونسمو ونترفع عن صغائر الأمور وتفاهات الأيام وتفاصيلها البالية.. وكيف تعنينا الصغائر ونحن الأقوياء.. وكيف يشغلنا الجزء ونحن الكل مكتمل.. وكيف تخذلنا الحياة ونملك تلابيبها ومقاليد أمرها وكافة أحكامها.

وأمام سلطان الهوى، نتخاذل.. يأتي الحب فيخذلنا.. يكسرنا.. يهزمنا.. يخفض الهامة ويركع العين ويرخي العزيمة.. يأتي ويأتي الانكسار مصاحباً له ورفيقاً أبدياً لازماً قي تواصل لا ينتهي ولا ينقطع.. نقبل بما يجود به الحبيب ونراه الكثير.. نرضخ لانكسار الهوى ونرى فيه كل الحياة.. نتنازل.. وفي التنازل، تخدع الروح روحها ويلوم القلب ثورته الدفينة وترى النفس الحائرة في الندرة وفراً وفى القلة زخرة وفى الانعدام كل الأشياء مجتمعة.. يخون الحبيب فننسى.. وما حيلة لنا.. يقسو فنزداد ليناً.. يهجر فيزداد تواصلنا.. يكذب فنزداد صدقاً.. ييأس فنزداد أملاً.. يتباعد فنزداد التصاقاً.. وفى النهاية، ينهي القصة فيزداد تعلقنا بها وتشبثنا باستمرارها.. نعتقد في الموقف المتخاذل ثباتاً وتفانياً ولا نرى وجه العملة الآخر.. رمادياً.. أعوجاً.. باهتاً.. وبين المتناقضات، نتوه وتتوه أيامنا وسنوات العمر الباقية.. أو المتبقية.. نرى في تقبل الإهانة صبراً وفي التغاضي عن الخيانة سماحة وفي الإغفال عن الكذب مغفرة.. نخدع الكل وأنفسنا قبلهم ونتجاهل الواقع لسراب نحسبه أملاً براقاً والأصل فيه وهم وخداع.

الحب رجل وامرأة.. آدم لا يتغير وحواء هي كل النساء.. يختلف بنو آدم طباعاً وخصالاً وأخلاقاً وتتنوع حواء ما بين الثائرة والحالمة والعنيدة والمستكينة وتبقي الكرامة سائلاً لا لون له ولا رائحة يجري في كل العروق وينساب بين كل الأنسجة على اختلافها وتنوعها وتباين تكوينها.. تبقى الأصل دون جدال والصورة البراقة لجنس بشري يحيا بها ولأجلها.. غالية عليك مهما قل شأنك وتضاءل حجمك وصغرت قيمتك.. تمنحك تلك القيمة الحقيقية والكينونة الحقة. يراك المحيطون كثير الإباء.. يحسبك الفقير غنياً والغني فائق الثراء فغني أنت بها ورفيع أنت بقدر ما تحفظها وتحميها وتحيا بها.. يراك الجميل إله الحسن بقدر ما ترى ذاتك بهية ومشرقة ويرى فيك القوي بأساً يدهشه ويبهره ويقف له تقديراً واحتراماً.. ليس في التضحية بها حياة بل في الحفاظ عليها كل الحياة.

أحياناً يملأنا الخوف من فقدان الحبيب أو بعد الرفيق أو انتهاء القصة ونجهل في حينه ما نعيه فيما بعد.. لا تهبنا التنازلات سوى المزيد منها ولا يمنحنا التخاذل سوى المزيد من الانكسار.. ولو أدركنا في حينه كم يكلفنا التغاضي عن الخطأ وتناسي الاساءة وتجاهل القسوة، لعلمنا حق العلم أن القدر مكتوب ونافذة أحكامه.. قد يتبدل بحسن الاختيار وقد يتغير برجاحة التعامل مع موقف أو حالة.. يخونك الحبيب وتغفر له فيعتاد الخيانة.. يكذب وتتغاضى فيستعذب المراوغة.. يسيء إليك وتتناسى فتصبح عادة.. ولو أوقفتها في حينها.. ولو وضعت لها نهاية قبل أن تخط الخاتمة سطورها وينفذ القدر بأحكامه.. كثيراً ما نتخذ المواقف المتخاذلة بدعوى الحفاظ علي الكيان.. يتزوج الرجل علي امرأته فتتدعي الحفاظ على الأسرة ومستقبل الأولاد.. ويعود إليها فتلقاه فاتحة ذراعيها سعيدة بالعودة السالمة وتعتقد فيها ندماً وأسفاً ولا يعي الدرس ولا يعتبر فيعيد الكرة من جديد. تهمل الزوجة رفيق العمر منشغلة بالأصدقاء واجتماعيات لا تنتهي وأولاد لا ينشغلون بها بقدر ما تشغل بالها بهم.. ويتباعد الرفيقان.. ويتناسى الزوج الإساءة ويستعذب الهجر بدعوى الاعتياد أو الالتزام فلا تدرك ولا تعتبر ولا تتغير الصورة حتى تنهار.. وفقط مع انهيارها، يدرك أبطال القصة المستهلكة كم كان الأمر سهلاً في بدايته.. عويصاً مع نهاية بدت واضحة جلية وانتهت بشقاء محتوم وخاتمة غير مرضية وقدر نافذ حكمه لا جدال ولا مساس ولا مفر..

قف مع نفسك قبل أن تجبرك الأيام على الوقفة.. تحلى بالصبر والجلد وواجه الموقف بشجاعة قبل أن يخذلك التخاذل وتكسرك الهزيمة.. اتخذ الموقف قبل أن يفرض عليك وجابه الحياة قبل أن تجابهك بقسوتها وسطوتها وجبروتها.. فربما يتغير القدر وربما يتبدل المكتوب.. وأحياناً لا يتبدل.. فاخرج منه ببسالة واحصر الثمن في التضحية بالجزء دون الكل والشيء دون كل شيء.. ولتخرج من التجربة مرفوع الهامة شامخ الجبين عوضاً عن جرح غائر لا يندمل وقلب مكلوم لا يشفى ونفس ثائرة لا تهدأ وعين دامعة لا تجف.. وأبداً، الكرامة سلاح لا يكل ولا يمل ولا يصدأ.. تمر السنون وتتوالى وتبقى الذات وحدها قادرة علي التجدد والتلون والابتكار وتبقي الكرامة أساسية في الحب.. لأجل الحفاظ عليه ودوام استمراريته وبقائه.

إقرأ أيضاً