وأخيراً صرخ الرجل.. وأخيراً أدرك خطورة الموقف وفداحة الثمن وعظم المأساة وحقيقة مرة صنعتها يداه.. وأخيراً خرج المارد من قمقم ظل حبيسه لسنوات طوال.. حطم إطاراً بالياً سجن ذاته بداخله عقوداً وعقوداً ليتمرد.. ليصرخ.. ليحطم.. ليعلن الثورة وكل العصيان.. مرآة أمامه وامرأة هادئة جالسة قبالته.. ساكنة، رزينة تتأمله.. نظرة خاطفة في المرآة.. سنوات مرت بخياله كلمح البصر.. بركان الغضب يغلى بداخله.. وثورة.. كل الثورة بانفعال وجبروت المارد بداخله. وبغتة، استدار للخلف بعنف صارخاً كالثور الهائج.. عايز حقى..
نعم.. منك عايز حقى.. ومع الاعتذار للفيلم الشهير ومع كل الاعتذار لرجولة لم يعد لى منها سوى نوع في الرقم القومى.. عايز حقى.. باللين والهوادة.. بالشدة والعنف.. عايز حقى.. من امرأتى.. من حواء.. من كل النساء!! بهرتها شجاعته وإن لم تصدمها كلماته فهى المرأة الواعية المدركة لحقيقة الكون من حولها.. رأته أخيراً كما تمنت دوماً أن تراه.. كما تخيلته صغيرة وأحبته شابة وتفانت معه فى رحلة العمر لتكشف لها الأيام حقيقة مستحدثة غابت عنها.. كينونة العالم تغيرت من حولهما فما عاد الرجل وما صارت حواء. في عالم اختلط فيه الحابل بالنابل، تبدلت الأدوار.. تغيرت المفاهيم والمذاهب والقيم وتبادل الرجل والمرأة أدوار الحياة في تغيير مفاجيء أربك الكون بقدر ما استراح له كلا الطرفين.. لطالما حلمت بثورته وتمرده بعد سنوات التراخى والهزيمة والانكسار.. لطالما داعبت خيالها صورته الأولى وفطرته التى جذبتها دوماً إليه.. عنفوانه المحبب وقوته السالفة وجبروته عند الحاجة.. صورة جميلة اختزلتها بخيالها.. صغيرة نسجتها قصص جدتها والصديقات.. ملت محاولة التعرف عليها شابة يافعة لتمسى في حياتها أشبه بالأسطورة البالية والحدوتة القديمة.. مجرد خرافة من أساطير الماضى البعيد التى ما عاد لها اليوم وجود فى عالمنا المعاصر حيث صراع الجبابرة ومركز القوة والحروب الباردة والهدنة إيذاناً بعودة المعركة دوماً من جديد!!
واليوم ومع منتصف العمر، خرج المارد عن صمته ليطيح بضعفه وانكساره ويعلن منتهى الثورة وكل العصيان.. كلمة واحدة زلزلت جدران صمت تحيط بهما منذ سنوات طوال.. عايز حقى.. ومن سلبه منك؟ من حولك وبإرادتك من بطل مطلق لمجرد كومبارس؟ من سلبك بريق الشهرة وأضواء المسرح ليجلس بك فى مقاعد المتفرجين؟ ومن جعل منى فى غني كامل عنك؟ ومن وهبنى القوة للاستغناء عنك؟ ومن خدعك بإيهامك برغبتي في التخلى عن حاجتى الدائمة إليك؟ عشرون عاماً مضت بنا واليوم فقط تصرخ عايز حقك!! ممن؟ ولمن؟ وكيف؟ ومليون لماذا؟.. إن أنصفت ابن آدم، واجه نفسك ببسالة الفرسان وجرأة الشجعان ورزانة الأقوياء.. قر لنفسك واعترف أنك بيديك سلبت نفسك حقوقك وألقيت بها أدراج رياح عاتية عصفت بكلانا معاً فما عدت أنا وما صرت أنت وأجيال متعاقبة تاهت من بعدنا.. عشرون عاماً مضت بكلينا.. جماعات نسائية تطالب بحقوق المرأة وأهليتها المطلقة لكل شيء.. أصوات ثائرة تعالت تندد بجبروت معشر الرجال وصنف الذكور.. تكيل اتهامات للرجل وتمنح المرأة مزيداً من الامتيازات لتحسن الأخيرة استغلالها والتمتع بها.. بدأها الرجل برغبة ملحة في الانحسار عن الأضواء والتخلى عن المسئوليات وحصر الأعباء الخاصة به في الإنفاق على الأسرة وتأمين مستقبل الأولاد.. بدأت بحوار أخذ فى التقلص حتى انعدم وعلاقة كانت حميمية شبه انتهت وأدوار معنوية بلغت أدنى معدلاتها.. مشاعر تناثرت.. أحاسيس تخاذلت.. احتواء ما عاد له معنى ولا مغزى ولا مجال وكيان مادى ينمو يوماً بعد يوم.. البعض رحل لبلاد بعيدة بحثاً عن المزيد من المال.. مستقبل الأولاد أهم.. التعليم الأجنبى أصبح استثماراً من نوع خاص والجامعة الأمريكية لا غنى عنها.. السيارة الجديدة أساسية والموبايل يتغير كل عام وأوروبا صيفاً وشرم الشيخ شتاء ومطالب الحياة.. حدث ولا حرج.. وزيارة سنوية إلى أرض الوطن وعودة الأب إلى أراضيه البعيدة مكبلاً بمطالب جديدة ودعوات صادقة بالتوفيق!! والبعض الآخر ممن فضل البقاء داخل الحدود انخرط في دوامة العمل اليومى فأمسى الحاضر الغائب في منزل سيطرت عليه المرأة بكل جوارحها وتفانيها ورغبة صادقة أو غير صادقة فى الحفاظ على الكيان.. وبدورها بحثت عما يشغلها.. عمل يمليء ساعات النهار ونشاط اجتماعى يسد الفراغ المتسع وأولاد لعبت في حياتهم دور الأم والأب مجتمعين ليمسى الأخير مجرد كارت بلاستيكى فى حافظة النقود يوفر الرفاهية المطلقة ويسدد الفواتير اليومية ويؤمن المستقبل البعيد.. فرحت حواء بالدور الجديد لتمله بعد قليل وتنخرط في أحلامها الخاصة وطموحاتها الشخصية والمهنية.. لا يهم.. فالأهم بناء كيانها المستقل وشخصيتها المنفردة.. حذت حذوه وأضافت البيت وساكنيه لقائمة الاهتمامات.. فقدت احتواء الرجل فبحثت بدورها عن البديل.. ولكل ما ارتضته بديلاً.. عملاً.. نشاطاً اجتماعياً.. رياضة.. لقاء الصديقات وفنجان قهوة يومى وقصص العالم من حولنا.. ومزيد من الحرية ومساحة الانطلاق تزداد اتساعاً ليمسى البيت الصغير مجرد جدران باردة خاوية تجمعنا وأجيالاً صنعناها معاً. وعاماً بعد عام، تزداد الهوة اتساعاً والفجوة عمقاً والصورة انكساراً لأمسى في النهاية رفيقة درب كفاحك وتصبح لى مجرد كارت ائتمان بلا حد أقصى ولا مدة زمنية لانتهاء الصلاحية.. مجرد واجهة اجتماعية وإن كانت مشرفة وبرواز لصورة جميلة صنعناها معاً..
وللحق، لست وحدك الملام ولن تتحمل وحدك كل المسئولية فأنا شريكتك وجريمة العمر اقترفناها معاً.. فرحت في البداية باستقلالى عنك.. سعدت بكل الأدوار المتراكمة والمسئوليات الجسام لأبكى فى النهاية فقدانى لك وحاجتى دوماً إليك.. تباعدنا بإرادتنا فأدمانا البعد وأشقانا الفراق الروحى مع تواجدنا الفعلى معاً.. توارت أحلامنا المشتركة فأمست أنا أريد وأنت تريد وكلانا يفعل ما يريد.. تضاربت الأجندة فى أغلب الأحوال فكان الانفصال النفسى مع بقائنا معاً.
ومع حوارى وصغيرتى، تراءى لى فداحة الثمن الباهظ لذنب اقترفناه دون دراية.. جاءت صغيرتى وسؤال حائر في العين البريئة.. وما حاجتى إليه؟ وما حاجتى للرجل؟ فما كان منى سوى اندفاع غير محسوب فى محاضرة مطولة تناولت أهمية الرجل كعمود فقرى للحياة وركيزة جوهرية لاستقرار الأسرة وتوازنها النفسى والاجتماعى وأهمية التواصل ودور الرجل الفعال فى الاحتواء والقدوة وتحمل المسئولية ومشاركة المرأة تفاصيل أيامها وقصة حب تجمعهما معاً.. أدهشتنى مجدداً في هجوم حاد.. وأين أبي؟ أين ذلك الدور الفعال فى تفاصيل أيام تمضى بدونه فى سلاسة ويسر؟ أين أبى بعيداً عن منزلنا الأنيق وسفرياتنا العديدة وسياراتنا الفارهة وحياتنا المترفة؟ أين أبى من لهونا ومشاكلنا وقصصنا وجلساتنا أمام التليفزيون ولمة الويك إند وعطلة الصيف الطويلة وأيام نقضيها علي رمال الشاطيء بدونه؟ أين أبي من اجتماع أولياء الأمور المدرسي وحفلات الجامعة ونشاطنا بالنادي وسمر الأصدقاء؟ أين أبي من حياتك كامرأة وأيامه كرجل؟ أين أمسياتكما معاً؟ أين كلمات الحب بينكما وليال طوال يقضيها كلاكما بعيداً عن الآخر؟ تغفو عيناك قبل عودته ليلاً ويفيق كلاكما وحيداً صباحاً.. تدلفي لأعمالك في الصباح الباكر ويتناول إفطاره وحيداً في حديقة المنزل الخالي من أصحابه وسيل من اللوم والعتاب المقنن في صورة تساؤلات بدون قدرة علي توفير الإجابة الواضحة من قبلي.. انبرت الصغيرة تعبر عن أحلامها وطموحاتها.. تريد الانطلاق والحرية وتقرير المصير.. تريد أن تعمل وتنجح وتتبوأ المناصب المرموقة وتحقق ذاتها وتمارس هواياتها وتنخرط بدورها في حياة رحبة بمفردها.. وما حاجتها للرجل.. ستعمل وتوفر قوت يومها وتبني مستقبلها وتؤمن حياتها وأباها ترك لها الكثير وأمها أيضاً. إذن فما الداعي للرجل؟ حياتها الخاصة لا تشغلها والرجل لا يأتي علي قائمة أولوياتها ولا يمثل من اهتماماتها سوي النذر القليل وحتي هذا لا يرضيها.. تجد فيه مجرد واجهة اجتماعية إن استلزم الأمر.. قد تأتي أو لا تأتي.. لا يهم.. حلم البيت والأولاد لا يشغلها والبعد المعنوي للحياة لا يطرأ ببالها ولا يرضي غرورها مجرد التفكير به أو التخطيط الجيد له.
صدمتني الصغيرة.. انهارت الصورة أمام عيني.. صغيرتي من صنع يدي.. وكلماتها سهام تكيل إلي أصابع الاتهام بكل قسوة وعنف.. صغيرتي هي صنيعتي وأباها معاً.. كلماتها البريئة وتساؤلاتها التائهة هدت المعبد علي رءوس أصحابه.. جيل جديد بمفاهيم مغايرة وطموحات متباينة هو نتاج ما صنعناه معاً.. تبادلنا الأدوار فأصبحت أماً وأباً في غياب الأب وأصبح دورك تأمين الذات والتواجد.. فقط.. عند الحاجة.. أخطأنا سوياً فما قدرت الحرية التي سعيت دوماً لها وما استمتعت بتخليك عن دور البطولة علي خشبة مسرح أيام مزقناها معاً.. حصلت علي كل حقوقي ويزيد.. وسلبتك أغلب امتيازاتك وأكثر.. ناطحتك علي درب الحياة رأسي برأسك وكتفي بكتفك وربما أحياناً يعلو وخسر كلانا النهاية.. واليوم تطلب حقك.. تطالب بالمساواة.. نعم، نلت منك وتفوقت عليك ونافستك فلا استمتعت معك ولا عشت بدونك!! فما حاجتي إليك مالاً وجاهاً.. وما قوتي في استقلالي عنك وما نجاحي في التخلي عنك.. تقول عني قوية.. ما من امرأة قوية بل رجل ضعيف.. قوتي الحقيقية في حاجتي إليك وقوتك في احتواء حياتي معك.. وكلانا نتقاسم أدوار البطولة في عمل درامي ممتد يجمعنا معاً.. وأحتاج إليك.. دوماً أحتاج إليك.. لأحضانك الدافئة وآرائك الصائبة وإن خابت وابتسامتك العذبة وإن توارت.. أحتاج إليك.. إلي الحصن العتيد حيث الود والقلب الكبير حين أهوي والسد المنيع حين تذروني الرياح.. تلك النهاية الدراماتيكية صنعناها بأيدينا وبإمكاننا تغييرها وتبديلها علي خير شكل.. لوح الزجاج المشروخ قد ينصلح وشرخ القلب قد يندمل والنفس الحائرة قد تعود يوماً للسلوان.. وبأيدينا ستمضي سنوات العمر معاً إن شئنا وأنا أريد وإن بذلنا الجهد وأراني علي أتم الاستعداد..
وسؤالي إليك.. لم أحيا بدونك وأنت نبراس الحياة وبريقها الضاوي.. وأنت أمسي ويومي، وغدي سيأتي حتماً بوجودك.. وحلم السعادة الأبدي دوماً معك.. ولم يمضى العمر بعيداً عنك مع قربك وبإمكاني الحياة بجوارك ومعاً سنخطو أولي الخطوات لترميم ما تصدع من الجدران الباهتة لتصبح الصورة أكثر إشراقاً واللحن أعذب أوتاراً واللون أكثر بريقاً.. يتسع العمر لكل البدايات علي صعوبتها وتأتي النهاية –فقط- متى استدعيناها.. وتذكر.. برغم حياة مرة تجمعنا وهوة سحيقة أمست بيننا.. أعود أدراجي للخلف.. بلا أوهام.. بلا صور خادعة وأحلام زائفة وطموحات بالية.. وأقرها وأعترف.. اليوم فقط.. مع عمر الأولاد يتزايد يوماً بعد يوم.. مع شعيرات بيضاء تغزو هامتي الداكنة.. مع صور الماضي تتراكم وسنوات العمر تمضي في صمت وسكينة.. أقرها وأعترف.. دوماً وأبداً وعمراً ودهراً.. أحتاج إليك.