كريمون عند الحاجة.. أطيب المخلوقات عندما يرغبون.. جدعان حين يودون.. وأشجع الشجعان فقط حين يبدأون.. تحسبهم كل البأس من تلك القوة البادية في الأعين والصلابة الكامنة بين حنايا الأضلع الجسورة تخفي ذاك القلب الحنون والعقل الكبير الواعي.. تراهم عند الحاجة يتوسلون وهم الأقوياء.. دموعهم قريبة برغم الجلد الواضح.. عزيمتهم صلبة برغم المحن الشديدة.. ودوماً تحت الأمر عند الطلب..
وأياً كان الطلب مجاباً ما داموا يرغبون وما زالوا يتوددون ومن الود والهوي والعشق ما زالوا يطلبون.. تحسبهم شديدي الغني من التعفف وفقراء من التواضع وعاشقون من ذلك الوله والهوي الجلي البادي في الأعين وتلك الدمعة المتحجرة في مقلتي العين العاشقة والقلب المتيم.
باختصار تراهم آية الكمال والكمال لله وحده فتدهش من تلك المثالية النابعة من المواقف وتلك المصداقية الشديدة في الحوار وذلك الصدق الجلي الذي لا تخطؤه الأذن ولا تغفله العين.. وأضق لتلك الخلطة السحرية المحكمة في إتقان شديد، خليطاً من الإخلاص والتفاني والرقة والعذوبة والصراحة والشجاعة، وطبعاً كثير من الوفاء المنقطع النظير.. توليفة تبحث عنها كل حواء وتتمناها كل امرأة تسعي خلفها كل النساء.. حبذا أيضاً لو تحلي بوسامة ملحوظة وأناقة لافتة وكياسة يحسده عليها الناظرون.. ولو كلل بالمال الوفير والمنصب المرموق والأصل العريق.. فماذا تريد حواء بعد كل هذا؟؟ الفارس المغوار علي الحصان الأبيض وحلم السعادة الأبدي.. الرجل الكامل والنصف الآخر وابن الحلال.
وللحق، كلهم ولاد حلال.. نعم.. كل الرجال ولاد حلال.. تغلبهم طيبتهم فيسامحون.. ينال منهم كرمهم الملحوظ فيمعنون في المشاعر الفياضة والأحلام الوردية التي تملأ جعبة حواء المسكينة بذكريات لا تنسي وتصنع بداخلها سياجاً حديدياً وحصناً منيعاً يقاوم العقل الذي يحذر والعين التي تري والأذن التي تسمع وجميع الحواس التي تدرك ما لا تود تصديقه وتري ما لا تريد رؤيته وتحلل ما لا تقو علي الاقتراب منه. ولأن الرجال أدركوا أهمية تقدير ذكاء المرأة وقطعوا شوطاً طويلاً في استيعاب حواء بكل أشكالها وألوانها وفنونها، أدرك ابن آدم لاحقاً الفلسفة الحوائية الحديثة والتي ترجمها مفكرنا الكبير أنيس منصور في مقولته الشهيرة «المرأة الذكية لا تطارد رجلاً فالمصيدة لا تطارد فأراً». نعم.. أدرك رجال القرن بذكاءهم المعهود وأخشي أن أقول خبثهم ومكرهم أهمية مطاردة المرأة الذكية وتخديرها للإيقاع بها وبذل المحاولات المستميتة لجعلها أسيرة شباك الهوي وقصر الشوق. أدرك ابن آدم بحنكته المعهودة أن حواء القرن الحالي لم تعد أمينة المستكينة المغلوبة علي أمرها، بل أمست تلك الكائنة الساذجة، الخجولة، قليلة الحيلة وحشاً كاسراً يتربص بالفريسة وينتظر اللحظة الفاصلة للانقضاض علي الأسير وطرحه أرضاً وإنزال أشد فنون العقاب به، في محاولة لتعويض سنوات الذل والخزي والانكسار والهزيمة.. وسلاحها في ذلك «التقل صنعة» أو كما يقول العامة منا «سيب حبيبك علي هواه...» والبقية معروفة والبقية تأتي. ودوماً تأتي.
فهم ابن آدم بعمق ما تريده حواء. فوهبها ما تريد لينال ما يريد.. وكل ما يريد.. استوعب الدرس الكبير.. حواء اليوم تفوقه علماً وعملاً.. تتبوأ مناصب كانت حكراً عليه.. تملك قوت يومها وأمان المستقبل.. تترأسه في العمل وتجعل من حياته جحيماً.. تناطحه علي درب الحياة، وتكيل له سهامها المميتة.. لديها الصخب متي أرادت، وبيدها تصنع الهدوء حين تريد.. حريتها بلا حدود وقيودها بين يديها.. تشكل مصائرها كيفما تشاء.. تقود الطائرة.. تغوص في أعماق البحار.. تترأس ساحات القضاء وتجلس علي منصة الحكم.. تجري العمليات الجراحية الدقيقة.. تبني المباني الشاهقة.. تنقب عن البترول.. تكتب بحرية وتستضيف كبار المشاهير في حوارات ساخنة.. تدير آلاف العاملين.. تقود العالم.. وأبداً تبحث عن أليف.. ونيس الدرب ورفيق الرحلة والنصف الآخر.. ابن الحلال!! ولأن مشاعرها تغلبها فقط في الحب، كان لزاماً عليها أن تقع في الحب.. حكم نهائي أصدره ابن آدم إذ عرف أن السبيل الوحيد لهدمها بيديها يكمن في تلك الكلمة البسيط.. وقصور الرمال التي تبنيها وتعلو بساكنيها فتجعل منها أميرة السراب وسيدة الوهم ومليكة الخديعة الكبري.. وكلمة أحبك!! متواضعة الكلمة في مضمونها ومستهلكة من كثرة ترديده إياها وهي لها كل الحياة.. مفتاح قلبها المغلق في إحكام وعقلها القوي ومشاعرها الصلبة.. بها تتنازل حواء عن عرشها فتنزل من برجها العاجي كاشفةً خزائنها المغلقة وكنوزها الخفية معزولة من كل أسلحة المقاومة وأجهزة الدفاع.. تمسي تلك الكائنة الوحشية واللهو الخفي –علي حد تعبيره الساخر عند وصفها للأصدقاء- قطةً أليفة وكائناً وديعاً وحيواناً مستأنساً يسهل تشكيله والعبث به متي أراد.. ودوماً يريد.. ونهاية مأساوية حتمية بدأت بابن الحلال وانتهت أيضاً بابن الحلال الذي لم يعد ابن حلال بل أمسي مجرد وهم.. خديعة.. سراب.. أو قل مجرد رجل.. وهي.. ما هي إلا كل النساء!!
هي صديقتي.. امرأة فاتنة في مقتبل العمر.. تسحر العقول برقتها وجمالها الأخاذ وذكاء يطل من عينيها ويبدو جلياً في ملامحها الجذابة.. وتأخذ العقول بعزيمتها وقوتها ونجاحاتها المتتالية وطموحاتها التي لا تهدأ، وهو رجل.. مجرد رجل كسائر الرجال.. يهواها ولا سبيل.. فالهوة سحيقة.. يتمناها وما نيل المطالب بالتمني.. لديها كل شيء.. لها كل ما له بل يفوق فلا سبيل إذن للإبهار.. دربها مفروش بالورود فلا جدوى إذن من المساندة.. عقلها يعمل بسرعة البرق فلا مناص من احترام ذلك الذكاء الواضح الجلي.. والحل، بسيط وسهل.. زعزعة بسيطة لمشاعر الفاتنة.. كلمات الحب الرقيقة المعسولة.. مطاردة لا تنتهي.. آهات لا تتوقف ورغبة دائمة في اللقاء!! قصة حب عنيفة تملأ أرجاء الكون علي مرأي ومسمع من الجميع.. حدوتة تقليدية من فرط بساطتها تغيب علي فطنتها. المهم.. سياسة النفس الطويل.. لا داعي للعجلة.. فالنتيجة أكيدة.. فقط.. الصبر ثم الصبر ومزيد من الصبر وستسقط الفريسة وتنهار. وقد كان.. سحرتها ابتسامته العذبة.. أسرتها مواقفه النبيلة دون مقابل وهي التي اعتادت على «هات وخد».. رأت فيه الفارس المغوار الذي لا يكل ولا يمل من محاولة إسعادها دون ثمن ينتظره.. مساندة في العمل.. استيعاب للطموح.. تقدير للمشاعر.. احترام للشخصية.. وتواصل علي طول الخط.. وألا من مزيد.. ودوماً المزيد تحت الطلب والأمر.. وأبداً لا تفتر مشاعره برغم جفاءها حيناً.. وأبداً لا يعلو صوته أمام صراخها.. ودوماً تلك النظرة الحانية في مجابهة تقلبها الدائم وقسوتها الموسمية وجمودها في أغلب الأحيان.. ولانت الفريسة.. واستكانت الصبية.. وهدأت المتمردة وإنفرجت أساريرها وظنت علي غفلة منها أنها وأخيراً رست علي الشاطيء الأخير وتحقق حلم السعادة الأبدي وأمل الغد المشرق.. لانت مشاعرها.. هدأت ظنونها.. أطفأ عقلها أنواره المضيئة مطلقاً للقلب كل العنان. وفجأة، انتهت القصة.. كما طاردها بقوة، انسحب بكل القسوة.. وكما غزا حياتها بكل أسلحته، أعلن وقف إطلاق النار وسحب القوات وقطع العلاقات دون سبب أو هدف أو مبرر.. وانتهت القصة كما بدأت.. ورحل ابن الحلال تاركاً إياها في حالة هي مزيج من دهشة وتعجب وترقب وكثير من الاستنكار.. وغضب.. نعم.. اجتاحها الغضب.. كل التمرد ومنتهي القسوة!! وسؤال بلا إجابة وعلامات استفهام بلا رؤية واضحة وكثير من الدهشة وأكثر من الغضب. ومن تكرار السؤال ملته.. ومن الغيبة، ولد البعد.. ومن البعد، جاء الجفاء.. ومن الجفاء، جاءت أخيراً بمنتهي القوة.
حدوتة تقليدية تتناقلها الصديقات علي فنجان قهوة ساخن ودخان سيجارة محترقة.. الكل عاش القصة ذاتها بشحمها ولحمها.. مع ذاته والآخرين.. ودوماً ابن الحلال الذي يفر لحظة القرار.. فاراً هارباً شارداً بلا مغزي ولا هوية.. عند دنو النقطة الفاصلة ولحظة حتمية القرار، يكتشف ابن الحلال عدم قدرته علي المواصلة والاستمرار فيما لا يشعر بعد بقدرته علي بنائه والسير علي درب اختاره بمطلق حريته وحر قراره بل وسعي إليه في الأصل!! بكت صديقتي وبكيت معها قصص الصديقات قديمها وحديثها.. فالقصة لن تنتهي بل يتزايد عدد الضحايا يوماً بعد يوم.. انسالت دموعها الحارقة علي وقت أضاعته وجهد بذلته ومشاعر وهبتها سخية وقلب فتحته علي مصرعيه.. ولأنه ابن حلال صدمها بقراره الأخير وعدم قدرته علي الاستمرار فيما اعتبره «سابق لأوانه».. ولأنه ابن حلال فلا حيلة له في المزيد مما خطه بيديه وأحكم صنعه بمطلق إرادته وسعي جاهداً للحصول عليه والحفاظ علي استمراره.. وله عذره، فهو ابن الحلال الذي لا يخدع ولا يخون ولا يكذب ولا يصطنع ما ليس فيه ولا يقو علي مواصلة ما لا يريد.. ولأنه ابن حلال اختار بعدها علي قسوته فضلاً عن مواصلة مشوار لن يكتمل وقصة لن تتم.. وانهارت صديقتي.. ساعات وأيام وشهور طويلة مضت.. حملت في قلبها غصة وفي عينها دمعة وكتمت بين ضلوعها صراخاً صامتاً وآهات مكتومة.. ونست أو تناست.. وعاشت أو سارت بها الحياة.. فالأصل فيها أيام لملمت الجراح وقوت الشكيمة وأصلبت العود من جديد.. ليعود بعدها الغائب من سفره البعيد والعاشق من منفاه الأخير.. ذليلاً، منكسراً، دامعة عيناه ومجروح قلبه بوطأة هزيمة صنعها بيديه. ولأنه ابن حلال، انتظر منها العفو والمغفرة وإن لم يطلبها صراحةً.. ولأنه ابن حلال، عاد ليعزف نفس الأسطوانة المشروخة والسيمفونية البالية طالباً الرباط المقدس والاستقرار الأبدي وحلم الأسرة والأولاد فاليوم هو قادر عليه.. ولأنه ابن حلال، عليها أن ترضخ وتنصاع وتقدر وتصفح وتعفو والأهم تنسي أو تتناسي.. لا يهم.. فالأساس لديه عودة القصة من جديد!! واحتارت الصديقة.. بين العقل الذي يحذر والقلب الذي يهفو شوقاً.. تمزقت ما بين البينة الواضحة والدرس القاسي.. ظل قرارها حائراً ورؤيتها قاصرة وضميرها تائه وعقلها مشوش وحتي مشاعرها مغيبة حائرة.. تناقضت نصائح الصديقات.. ثار الأهل وهدأوا ليثوروا من جديد.
وإلي متي تظل الحيرة.. وإلي أين النهاية.. ومن يتكهن بمكنون النفس البشرية وهي عاجزة عن استيعاب ذاتها.. وإلي أين المصير وأبطال الرواية ملوا سماع تفاصيلها.. لم الرحيل والأهم لم العودة؟ لم التواصل بعد البعد الاختياري؟ لم نلق ما لا نطيق البعد عنه فنبحث عنه بعد فوات الأوان وقد يفوت الأوان أو لا يفوت.. وقد يكون الطبق المشروخ أطول عمراً.. لكنه أبداً لا يعود لحالته الأولي.. جميلة البدايات وتأتي قدراً ونصنع خواتيمها بأيدينا.. جميلة الحياة لو عشناها واستمتعنا بها.. جميل أن يدرك ابن الحلال ما يريد.. جميل أن يدرك أن الحياة تهب الفرص مراراً فقط لمن يقتنصها وأن العمر يمضي فقط بمن يستمتع به وأن الحب يعيش فقط بين مريديه وأن القدر لا يأتي أبداً بعد المداولة..