خلقنا الله أحراراً وبأيدينا صنعنا السجون، خلق الله الأرض رحبة فصنع أبناء آدم سدوداً وحواجزاً تحُد الإنطلاق وتعوق الرؤية. كفل الله للإنسان حريته فتفنن في إبداع قيود بالية من موروثات سجنته بجدران نفسه وحالت دون تواصل البشر فجعلت من العالم جُملة زنانين تضم أعداد غفيرة تسير مُغمضة الأعين، مُوصدة القلوب تُغلق عقولها وتعوق مرمي البصر وتمنع ضوء الحق من البزوغ وتقف حائلاً بإنتظار من يفتح الباب ويفك الأسر ويحل طلاسم الشفرة المُبهمة.

والمشكلة كما أراها تكمن في ذلك الخلط ما بين الأساس والكماليات، التقاليد الراسخة والموروثات البالية، العادات الأصيلة والمُمارسات المكتسبة، ما بين كل المتناقضات وشعرة خفية تفصل بينها فتُحيل البياض سواداً لدي البعض والخطأ صواباً لدي الآخر. نُسميها عادات شعوب وتقاليد حضارات وثقافة الغير وإختلافات البشر والأصل فيها تابوت حي نُحكم صنعه ونقبع بداخله مُوصدين كل السبل لنفاذ الحق والحقيقة المجردة. ولأن المشاهد تتبدل من حولنا، نتبدل. ولأن الصور تتداخل واللوحة تتغير ألوانها والعالم يركض في تغيير مستمر نتغير ظاهرياً وتبقي بداخلنا بقايا أفكار ومشاهد وكلمات وصور تأبي إلا أن تغشي العين سواداً وتمنع نور البصيرة من النفاذ.

نعم، العالم يتغير من حولنا فيما تظل الغالبية العظمي عاجزة عن استيعاب التغيير الذي يلحق بكل شيء. أمسي العالم قرية صغيرة وعجزت عقولنا عن استيعاب التغيير الذي تخطي الظاهر للباطن والصورة القديمة للأصل الجديد. تغير كل ما حولنا وبقينا علي عهدنا. إختلف الزي والطلة والزمان والمكان وبقي إبن ادم علي شاكلته وحواء كما هي وبينهما صراع لا يهدأ وحلقات لا تكتمل وقصة أبداً لا تموت. جاء إبن آدم للدنيا بحثاً عنها وجاءت حواء مُطاردة أصيلة له ورحلة كر وفر أزلية لا تنتهي. نعم، هي دوماً بحاجة ماسة إليه بيد أن تلك الحالة تبدلت دوافعها بتغير ما حولها. بالأمس كفل لها الحياة من مأكل وملبس وأسرة وكيان واليوم أمسي مُطالباً بتوفير السند المعنوي والمرفأ بليالي الصقيع والعون عند الحاجة والحبيب علي طول الخط. تبدلت حواء واختلفت احتياجاتها وظل إبن آدم علي عهده حاصراً دوره بحياتها علي لقب تحمله بإرتباطها به وأسرة لا تملك تكوينها بدونه. ولما استغنت حواء عن رغبتها في الحياة معه، إنتفت الصفة الأساسية لوجوده والدافع الرئيسي لبحثها عنه.

نعم، حواء اليوم حرة وان كانت حريتها قيداً يُكيل لها بأكثر ما يهبها من راحة وسعادة، ملكت قوت يومها فإزدادت حدة مشاعرها بحثاً عن الحضن الدافيء والصدر الحنون، حسابه البنكي لم يعد يغريها فقد تفوقه حسابات وأرقام وقدرة ووجوده الروحاني أمسي لها أساساً جهل آدم أهميته وسُبل تحقيقه. إنها اليوم قاضية تحاسبه وطبيبة تعالجه وشرطية تكيل له وأستاذة تعلمه فنون الحياة وأساسيات الكون ودوماً بداخلها تلك الطفلة الوديعة التواقة لاحتواءه بشروط يصعُب عليه في الأغلب تحقيقها. والنتيجة، حواء وحيدة وآدم شارداً يبحث عن الأم الغائبة والحبيبة المفقودة والرفيقة التائهة وسنداً اعتاد دوماً عليه ولأن الوحدة عذبة علي مرارتها، إستعذبت حواء إنطلاقها وحيدة علي درب الحياة فإما أن تجد ما تريد أو هي في الأساس لا تريد. إختارت حواء حرية النفس وإنطلاقة الروح عن المكوث بخسة فيما أسماه العُرف سنة الحياة. «لوحدي وبراحتي» شعار رفعته حواء وقاومه آدم فما كان منه في النهاية سوي الإستسلام له. ومع إنهيار مقاومته، إزدادت حيرتها وإتسعت رقعة الفراغ حولها فالأصل دوماً قصة تجمعهما معاً ورحلة حياة يمضيانها سوياً بحُلوها ومُرها وسعادتها ومرارتها، ذكريات لا تُنسي ولوحة لا تكتمل سوي بتلاحمهما معاً. نعم، أشتاق لوجودك، أحتاج اليك، أتوق للقاء يجمعنا وأحاديث لا تنتهي ولوحات متناثرة تصنع في مُجملها تابلوه مكتمل لرحلة حياة تجمعنا معاً. نعم، وجودك بجواري يمنحني السكينة والقوة وكثير من العزيمة والعناد. نعم، بداخلي رغبة عارمة في إحتوائك وحمايتك ورعايتك فالأصل فينا معاً أساس الكون وأصل الحياة بيد أن وجودك اليوم مشروطاً بقدرتك علي العطاء وبذل الجهد لتحقيق الغاية منه فوجودك المجرد ما عاد يعنيني وفكرة وجود الرجل لم يعد لها أساس بذاتها بل هي وسيلة لغاية أسمي وهدف أبعد وطموح لا يتحقق سوي بإدراكك لأساسه والأصل فيه والهدف منه.

تقاليدنا البالية في حتمية وجودك كأساس للحياة لم تعد علي عهدها فأنا اليوم حرة وإن إختارت غيري العبودية وأنا اليوم صاحبة قرار وإن إمتثلت غيري لإرادتك ووجودك ككائن يمنح حياة صنعتها أنا بدونك. فكرة «الست محتاجة راجل يحميها» و«البنت مالهاش إلا بيت جوزها» أمست عبارات جوفاء لا يحلو لي ترديدها بل أري فيها عودة للخلف ومعوقات أحاربها كما حاربها العالم من حولي فأنا اليوم أملك كل شيء وإمتلاكي للكون زاد من رغبتي في وجودك بجواري أباً وأخاً وحبيباً وصديقاً قبل كل شيء. أنا اليوم لوحدي وبراحتي أو بك وسعيدة معك.

أهلاً بك حبيباً أتواصل معه، أهلاً بك صديقاً أُسر إليه بمكنون صدري فما حاجة لي لدعوة عشاء بل أحتاج لكائن يمليء جوارح نفسي ويمنحني السكينة عند الحاجة والعون علي طول الخط. أهلاً بك آدم العائد من غيبته فحواء بإنتظارك متي أدركت ماهية وجودك ودور حواء بحياتك. عد آدم لأعود حواء وإمنحني ما أريد لتحصل علي أكثر مما تريد.

إقرأ أيضاً