يوقظنا الأمل كل صباح وتمضي بنا الساعات لينتهي اليوم وحلم لا يتحقق، ويأتي الغد، كما يأتي كل غد.وكثير من التفاؤل برغم الآمالالتي تخيب لكنها أبداً لا توئد فينا تلك الطاقة التي تفجر بداخلنا القدرة علي المواصلة وسط خضم الأحداث المتلاحقة، السعيدة حيناً والتعيسة في كثير من الأحيان.
نطالع الصحيفة وفنجان القهوة كل صباح ويوم جديد، حظك اليوم ينبئ بمفاجأة وخبر سار على الأبواب تعتقد فيه إذ لا تملك سوى الاعتقاد فطبيعتنا البشرية تميل للتعلق بالأمل وإن كان كاذباً وبالبهجة المنشودة وإن كانت طيفاً واهياً يداعب الخيال وذلك الشعور الغامض بأن غداً يوم جديد ومعه قد يأتي الخير وقد تتبدد غيوم الأسى والحزن.
كان ذلك حالنا في زمن مضى. وأيام ماعادت هي الأيام.. زمن الحلم الجميل، حين كنا نتأمل جمال الكون ونلمسه ونرى العالم من حولنا كما يجب أن يكون، كانت توقظنا زقزقة العصافير ففي هذا الزمن كانت العصافير لا تزال تغرد قبل أن يتحول عذب صوتها صراخاً مدوياً ومصدر إزعاج، في هذا الزمن كانت الورود الملونة والأشجار المورقة عنوان قدوم الربيع بعد جفاف الشتاء وقسوته قبل أن تحل محلها الكباري والأنفاق وأماكن عبور المشاه وساحات انتظار السيارات، كان شتاؤنا قارساً لكنه أبداً لم يكن كذلك فالجغرافيا تقول «حار جاف صيفاً، دافيء ممطر شتاء».
كان الخريف رمادياً وليس أسود بسحابة دخان كثيف لا تزول، كانت المدينة تعج بساكنيها، لكنها لم تكن بهذا التكدس وعلى هذا الازدحام فالشارع للمارة والسيارات وعدد من أوتوبيسات النقل العام، ففي هذا الزمن كنا نستقل الأوتوبيس دون حرج أو معاناة وما العيب في ذلك والمواصلات العامة مريحة وسهلة وعملية وتصل بك في الموعد المحدد. واليوم يالهول حال الأوتوبيس العام غلبه اختراع العصر المايكروباص الذي تطور وانبثقت عنه مشروعات أخرى شقيقة لعل أشهرها التوك توك والبقية تأتي.
في زمن الأنفاق، رفض المترو القديم بإباء وشموخ الاندثار، فظل يجوب أرجاء المدينة ببطء شديد وكسل أشد، عزفت عنه الغالبية مفضلة مترو الأنفاق السريع، لكنه لم ييأس بل ظل يتجول علي هدوئه المعهود عله يجد بين المارة من يؤنس وحدته مضيفاً بذلك بعداً جديداً للإختناق المروري الذي تعيشه العاصمة ومصيباً بمروره البطيء قلب الشوارع الرئيسية فهو لا يخترق إلا الطرقات الحيوية بشلل جزئى أو كلي حسب التدفق البشرى والمرورى بها وبعد أن كان المترو إحدى معالم المدينة الجميلة ووسيلة التنزه بين طرقاتها الواسعة الخضراء، أمسى وسيلة تعذيب يومية بفضل العادم الأسود الذي يلاحقه أينما ذهب. وحتي بعد أن رحل المترو وأصبح ذكري لا زال يؤرقنا رحيله فنذكره دوماً بكل خير.
في هذا الزمن الجميل، كان الماء نعمة ونقصد ماء الصنبور الذي ينساب بتدفق قبل أن يلحقه التطور بدوره متحولاً إلي زجاجات معدنية وسلع تجارية تزين الرفوف، يقبل عليها القادرون لخلوها من الأمراض ويعجز عنها محدودو الدخل مفضلين البكتيريا والبلهارسيا والأوبئة علي التضور جوعاً والموت علي قارعة الطريق فمن أين لهم بالمال اللازم ووسائل الإعلام تحثنا كل صباح على تناول ما لا يقل عن ثمانية أكواب من المياه يومياً للحفاظ علي نضارة الوجه ورشاقة القوام والصحة العامة!!
كانت أحلامنا في هذا الزمن بسيطة وشرعية وسهلة المنال، تعليم الصغار، إيجار البيت، مصاريف الشهر، ملابس العيد، زواج البنت من ابن الحلال وحصول الابن على وظيفة لائقة ويا سلام لو كانت ميرى إنطلاقاً من مبدأ «إن فاتك الميرى اتمرغ فى ترابه».. هذا التراب الذى أصبح غباراً رمادياً يثير الضجر. وللحق، لم يعد الجرى وراء الميرى على هذا النحو من الإبهار بل أصبح وصمة عار تطارد صاحبها أينما كان محملة إياه كثير من العار والخزى وافتقار الواسطة للحاق بقطار القطاع الخاص وكثير من النقود تدفعها من وقتك وجهدك واستنزاف طاقاتك حتى النهاية. وعند النهاية، تصبح كخيل الحكومة فتحال للمعاش لتصبح مستشاراً أو تلقى جانباً لتصبح عاطلاً منضماً بذلك لطابور الخريجين الذين فقدوا الأمل -برغم الشهادات العليا- فى عمل لائق.. أى عمل!!
فى هذا الزمن أيضاً، كان الأب رجل البيت المسئول قبل أن يتحول -بفعل العولمة- لشاب صغير السن والعقل، طائش ومحدود القدرات والأم التى كانت مدرسة بوصف أمير الشعراء تبدلت أولوياتها وأمسى البيت والزوج والأولاد من الأعباء الإضافية التي يمكن للغير القيام بها بجدارة. ولم الإرهاق والمدرسة الدولية تربى الأولاد والخادمة الأجنبية تعلمهم الانجليزية بإتقان فاللغة العربية لم يعد لها أهمية قصوى اليوم والإنترنت لغة العصر ومصدر الثقافة الرئيسي والنادي ملتقى الأصدقاء وهم البديل الشرعى للأسرة فالصديق يفهم أكثر، وينصح بقلب، ويساند عند الحاجة.. والانطلاق خارج المنزل للفتى والفتاة على السواء فلا مجال للتفرقة العنصرية، من سمات المدنية وأمر محبب على قلوب قاطني المنزل الصغير والقصد هنا قصر القطامية أو فيلا السادس من أكتوبر- إذ يضفى على المكان هدوءاً بعد هجرة الساكنين.
طبعاً، ليس تقليلاً من الدور الكبير الذى يلعبه أصحاب البيت خارجه فالأب المسكين مسئول عن تمويل الأسرة وإضافة أصفار متتالية لحسابات البنوك، الأسعار أصبحت نار وكل يوم منتجع جديد وسيارة أكثر رفاهية ومراكز تجارية تضم كل ما هو فاخر وطبعاً مستورد ولا مجال للمحلي!! والأم مسكينة بدورها تبذل مجهوداً خرافياً لإضافة بعداً اجتماعياً جديد للأسرة ووضعهم على خريطة المشاهير تلتهم حياتها الحفلات الخيرية والبازارات وحفلات الصديقات فضلاً عن جلسات الكوافير والجيم واجتماعات الجمعيات النسائية والخيرية والبيئية..إلخ والهدف تأمين مستقبل الأولاد تلك الكائنات الصغيرة التى تشب شيطانياً فاقدة الشعور بالمسئولية ولذة العطاء والكفاح فى زمن التيك أواى حيث الكل على عجالة غير مفهومة وإيقاع بكثير من الركض والهرولة لهدف أكثر غموضاً وأحلام مشروعة أو غير مشروعة، لا تعنينا كثيراً ماهيتها بقدر ما يشغلنا ضرورة تحقيقها على أكمل وجه.
فى هذا الزمن الجميل، كان الحلم حقاً مشروعاً يكفله الدستور وقوانين السماء والكل سواسية فلا فرق بين فقير وغنى، متعلم وأمى، كبير وصغير، «لو بطلنا نحلم نموت». واليوم أمسى الحلم رفاهية وكثيراً من الترف ومسألة نسبية بحتة في علاقة تصاعدية مع الإمكانات المتاحة انطلاقاً من فلسفة «إحلم على قدك»!! هذا الزمن الجميل ليس بعيداً بل عاشه جدى وجدتى وعاصره أبى وأمى ويفتقده واقع فرض علينا قيوداً ومحاذير وتساؤلات تعيشها اليوم كل طبقات المجتمع الذى تخلخل من جذوره وتغلغلت به مبادىء استحدثناها من الغير فبدلت نسيجه المتماسك وجعلت منه أرضاً خصبة لمفاهيم غريبة وكل المتناقضات.
نعود لذلك التفاؤل المحبب الذى يشع البهجة فى القلوب ويبث في النفس الحياة. وللحق، علينا أن نمرح بأيامنا فالعالم أصبح قرية صغيرة كتلك القرية الذكية على أطراف المدينة والتى أصبحت اليوم قلبها النابض بتكنولوجيا العصر ووجه العاصمة طرأ عليه التعديل، لافتات المحال التجارية العالمية حلت محل الدكاكين القديمة والمقاهى الفاخرة والمطاعم العالمية انتشرت في كل مكان وإن كانت حكراً علي ميسورى الحال. ومن هم ميسورو الحال؟ الكل فى معاناة فى عالم تفوق فيه تطلعاتك قدراتك مهما بلغت وتناقضات واضحة بين من يموت جوعاً ومن يتكدر داخل قصره الكبير حزناً علي كلبه الصغير المريض أو سيارته التي ابتاعها لتوه جديدة وأصبحت قديمة بظهور الموديل الجديد والركض خلف العملات المعدنية والورقية هو القاسم المشترك بين الجميع!! وبرغم اندثار الحلم، ما زالت بداخلنا تلك الطاقة الفياضة -وإن خفتت- على المثابرة لتحقيقه. وبرغم غياب أدواته الأساسية، لا يزال بداخلنا يحيا الأمل قريباً أو بعيداً، لا يهم فالأصل فى الحلم رغبة النفس الحقيقية فى الوصول إليه.
كل ما حولك يبعث حقاً علي الاكتئاب، الشوارع المتكدسة تحول بينك وبين الوصول لبغيتك.. لا يهم.. الهواء النقي والماء النظيف أصبحا عملة نادرة.. لا يهم.. العلاقات الأسرية تفتتت واندثرت.. لا يهم.. الترقي الوظيفي أصبح في قيمة الواسطة التي تملكها وليس العمل الذى تؤديه.. لا يهم.. الصراخ يعلو المكان.. لا يهم.. الآهات تتعالى بقوة وعنف والدموع تكسو وجه المدينة.. لا يهم.. وماذا يهم.. فالمهم أن تعلو الابتسامة وجهك البائس وإن كانت ظاهرية رغماً عن قلبك المكلوم.. المهم أن تنير السعادة أساريرك وإن كانت باطلة.. المهم أن تتفاءل حاملاً في قلبك الأمل بأن غداً يوم جديد.. هل هو يوم جديد.. ومن يدرى.. هل هذا الغد سيأتى أصلاً.. ومن يدرى.. هو آت لا محال شئنا أم أبينا فأوراق النتيجة المعلقة على الجدار تتساقط يوماً بعد يوم.. وتضيف دقات الساعة عند منتصف الليل يوماً جديداً لعمر الزمان والأصل فيه طيفاً يداعب الخيال عله يعلو يوماً ويصبح واقعاً نحياه ونستمتع به، نعيش على أمل أن يأتى هذا اليوم، ننبش الجدران بحثاً عنه ونقرع الأبواب المغلقة، نجده أو لا نجده.. لا يهم.. الأصل في رحلة البحث ومتعة الانتظار ومرارته هى التى تخلق شعوراً بالامتنان والسعادة، رحلة قوامها الرغبة والقوة والإصرار وربما الدهشة من واقع خلقناه بأيدينا وحياة نحياها رغماً عنا.
تفاءل واضحك فلن تضيرك السعادة في شىء، ابتسم في وجه الحياة علها تبادلك الابتسام كما تشاركك تبادل إطلاق النار، امرح في الطرقات الخاوية فخلوها ظاهرة لن تتكرر وانقش على الجدران كلمة حب وسلام وارسم زهرة صغيرة علي كل باب رغم المعوقات وكل الصعاب، تحدى العالم من حولك فقد خلق فقط للأقوياء، اسعد بسنوات العمر فستمضى لا محال فالقطار لا يتوقف ودقات الساعة لا تصمت والليل يأتى بعده النهار، ظاهرة جغرافية معروفة والشمس ستشرق وإن غابت والنجوم ستتلألأ مهما تلبدت السماء بالغيوم ودقات القلب ستصمت -فقط- حين يشاء القدر وقدره إلى نفاذ، فلتسعد اليوم فربما تبكي غداً وربما تزداد الابتسامة ويأتي الغد بكل الخير وتذكر زمن الحلم الجميل وابتسم أو اضحك وربما تتحسر فسيأتى الغد، حتماً سيأتى الغد، يوماً ما سيكون هنا «بكرة» ودوماً سيكون «بكرة أحلى مالنهاردة».. مقولة رددها السابقون ونحن اللاحقون علها تتحقق أو لا تتحقق، لا يهم فالأصل فيها أمل وسعادة منشودة وزهوة لحظة نأمل أبداً أن تدوم.