كان شديد الرفض لفكرة الزواج.. مجرد فكرة الارتباط.. يجد فيها نهاية مأساوية للحياة وشراً لا داع له.. وانتهى به الحال زوجاً لاثنتين معاً.. الأولى ارتباط إجباري ونهاية حتمية لقصة الدراسة وسنوات الجامعة وخاتمة اختارها الأهل انطلاقاً من أهمية الزواج المبكر وفقما تراه تقاليدنا وعاداتنا والثانية.. العشق بعد المداولة.. اختيار العقل الناضج.. فلسفة يوتوبيا المفقودة ووهم السعادة الزائف..

وافق على الزواج بمشاعره البكر وانفعالاته الشابة وقراراته المراهقة ومبدأ «ليه لأ ؟؟» لتكتب وثيقة الزواج وطفلين هما ثمرة عشرة أعوام نهاية حدوتة الاختيار الطائش في باكورة العمر ونفس القصة الدراماتيكية بروتينها وتفاصيلها وأحداثها وكافة صورها وألوانها وساعات طويلة ثقيلة رمادية تقاسماها معاً فلا كانت السعادة ولا كان الفراق.. بل صارت الحياة.. مجرد حياة. ومع دقات ساعات العمر تتوالى، جاءت الثورة.. وكان التمرد وفاض الكيل بكل العصيان وامرأة جديدة تملك من النضج ما يرضي العقل الواعي المتفتح ومن المشاعر ما يشبع غرور القلب الفتي ومن الأنوثة ما يذيب الجليد ويثير الرجل وكل الرجال!! وحلقة محكمة الصنع دخلها بإرادته لتنتهي بقفص ذهبي حسبه عش الغرام ليجد فيه منزل زوجية ثان.. ربما اختلف طرازه وألوانه وقطع الأثاث به لكنها أبداً نفس الصورة الأولى تتكرر بإيقاع مختلف وطراز ما هو سوى امرأة جديدة وزوجة ثانية وطوق حديدي آخر ومزيد من الشعيرات البيضاء تغزو الهامة السوداء وسنوات العمر الرتيبة تمضي في صمت القبور.. البيت أصبح اثنين والطفلين أصبحا ثلاث فتيات واثنين من الصبية في مقتبل العمر.

المراحل الدراسية متنوعة.. الأعباء المادية سلاسل حديدية والمسئولية مضاعفة وامرأتان هما في الأصل وجهان لعملة واحدة.. نفس الحوار.. نفس المشاكل.. القصص ذاتها.. التفاصيل هي بعينها والحياة ساقية تدور بقاطنيها والأحلام الواهية تتهاوى على صخرة الواقع الأليم وزواج ثان هو صورة مكررة من تجربة أولى ثبت فشلها أو بالأحرى لم يسع صاحبها لترميم التصدعات بها فأمست حطاماً أضاف إليه هيكلاً جديداً ليزيد القصة تعقيداً والأحداث تشابكاً وتداخلاً ورحيل لأرض جديدة بحثاً عن المزيد من الرزق وربما الراحة والحرية.. وهناك.. بعيداً.. سماوات جديدة رحبة تتسع.. أرض خصبة تمتد ووجوه مختلفة أو هكذا رأتهم العين التواقة إلي الفرار والهروب من ذكريات الماضي البعيد وأحداث الواقع الإليم وسلسلة قرارات خاطئة هوجاء في لحظة طيش.. وهناك.. على شاطيء الخليج في تلك المدينة العربية الصغيرة التقاها.. صبية شابة تخطو بخطوات ثابتة نحو حياة تتسع أمام عينيها يحدوها بريق الأمل والغد والعشق وكل الحياة.. وحيدة مثله بيد أن أعباءها ضئيلة مقارنة بحمله الثقيل.. أحلامها تنحصر في قصة حب على أرض غريبة.. حدوتة تملأ بها فراغ الأيام الخاوية.. جمعتهما ساعات العمل الطويلة لتفرق بينهما أيام العطلة وويك إند أصبح يختلق الأعذار والحجج للقاء والتواصل.. أحاديثها الشيقة ملأت فراغ أيامه الخاوية وفيض طموحاتها وأحلامها وخططها المستقبلية يفصله عن واقعه الكريه أو كما يحلو له أن يراه.. بادلها الحديث ليروي لها سلسلة فشله المتكرر وزيجاته المتتالية وأولاده وأعباءه ومشاكله وقصة الرحيل.. وجد فيها أنيس الطريق ورفيق الوحدة وأليف الساعات الطويلة في بلاد الغربة.. نما بينهما ذلك المارد الصغير-أو هكذا خيل له - ليكتب مع الأيام قصة عشق جديدة أو قل قصة الحب ذاتها تتكرر.

أحبها بجنون.. أصبحت يومه بليله ونهاره.. صباحه ومساؤه.. يفيق على صوتها العذب وصباح يوم جديد لتجعمهما أروقة العمل وساعة الغداء وأمسيات الظهيرة لينتهي اليوم –كما بدأ- بصوتها العذب وأمنية بليلة هادئة ونوم عميق.. وبتوالي الشهور، تراكمت المشاعر وتدفقت الأحاديث الجياشة وكثير من التواصل ومزيد من الحرية.. نفسه العكرة تصفو.. ملامح أيامه المتشابكة تتضح.. وألوان العمر تزداد بريقاً وازدهاراً.. وتأتي اللحظة الفاصلة.. قرار من جديد.. أريدها.. أحبها.. لا حياة لي بدونها ولا حياة لها بدوني.. إنها الملاذ بعد العناء.. والهدوء بعد الصخب والضجيج.. والحياة من جديد بعد سنوات الماضي المنصرم.. ويأتي القرار.. وخاتم ماسي ثالث وقفص ذهبي يلوح في الأفق البعيد.. وبريق السعادة يزغزغ القلب المكلوم والنفس الحائرة لا تكف عن الخفقان.. ولأنه عنيد، تراجع عن التفكير المنطقي ليخرس بداخله دقات التحذير تتعالى وتتزايد.. العقل يحذر من تجربة ثالثة والقلب يخفق في انتظارها والنفس حائرة بين الوجدان وأحكام المنطق وحسابات الورق.. ولأن لديه قدرة فائقة على الإقناع اكتسبها من سنوات عمله التجاري الطويلة، باع لنفسه القضية مقنعاً نفسه بأهمية استعادة الحياة من جديد.. ولأن بداخله شعور دفين بالتهور والاندفاع والإقبال على حماقة جديدة، أخفى الأمر برمته عن الجميع فلا الأهل على دراية ولا أقرب المقربين ولا الأصدقاء شاركوه لحظة القرار أو حتى المداولة قبل الحكم.

ونقدر وتشاء الأقدار.. ونتمنى ونخطط ويسير القدر في سبيله يتلاعب بمشيئة إنسانية عاجزة ورؤية قاصرة ورحلة عمل إجبارية قصيرة في بلاد بعيدة.. هناك في قلب الغابات.. ولأنه يأبى الامتثال لعلامات القدر، أقنع ذاته بأن التأخير لن يضر فالقرار نافذ لا محال.. فقط.. فرق التوقيت.. مسألة تاريخ ليس إلا.. سافر على وعد –مع ذاته أولاً- بعودة سريعة وزواج قريب لينتهي به الحال على ضفاف المحيط الممتدة بمياهه  الصافية في زرقة تتداخل وزرقة السماء الحمراء من وهج الشمس الاستوائية تنعكس علي رقعة الأرض الخضراء المنبسطة والوجوه السمراء تعلوها ابتسامات الترحيب البيضاء تحيط به من كل جانب.. ومع فنجان القهوة ليلة العودة مجدداً، اندفعت الذكريات وشريط العمر الممتد.. عشرون عاماً من الركض واللهث والهذيان.. عشرون عاماً كاملة ولت.. شاب العشرين انتصفت سنوات عمره الأربعين.. تجاعيد الوجه ازدادت.. الشعيرات البيضاء غزت الهامة بأكملها.. القامة انحنت قليلاً بفعل العمر وعبء الأيام.. بنات في سن المراهقة وصبية في انتظار الأب ليخطو بهم خطوات المستقبل الأولى.. طفلة صغيرة هي آخر العنقود وعائل الأسرة في سبيله لتأسيس أسرة ثالثة.. وسط خضم تلك الصور المتلاحقة، تراءت أمام مخيلته صورة لامرأة حزينة هادئة تكسو ملامحها كآبة غيوم ليالي الخريف.. تعلو شفتيها ابتسامة حزينة وفي عينيها انكسار. ولدهشته، تلونت المرأة وتبدلت ملامحها عدة مرات فتارة هي زوجته الأولى  الشقراء بشعرها الذهبي الطويل وتارة هي رفيقته الثانية السمراء بعيونها الحور وقامتها الممدودة زادتها السنوات قليلاً من الانحناء. من تلك المرأة؟؟ أهي الأولى أم الثانية؟ أهي حب الطفولة أم عشق العقل؟ لماذا تنظر إلي نظرة لوم وقهر وعتاب؟ لماذا تكسو ملامحها الهزيمة؟ هزم الأولى بتجاهلها وهزم الثانية باندفاعه.. طعن الأولى بسكين الغدر والخيانة وكال للثانية بسهام الكتمان.. عاشت الأولي وحيدة في النور وقضت الثانية ساعاتها وحيدة أيضاً في الظلام.. ظلم كلتاهما.. الأولى حين تزوج عليها بدلاً من محاولة إصلاح ما تهدم من جدار أمضيا العمر في تشييده ونال من الثانية سنوات أضاعها في محاولة إخفاء زواجه بها.. النتيجة النهائية سلبية والمحصلة صفر.. علمت الأولى بزواجه فسقط من قلبها وعقلها وكل حساباتها ومضت بالحياة فقط لأجل البيت والأولاد وسنوات العمر الضائعة وما اطمأنت له الثانية ولا استكانت وكيف وقد أخفى زواجه بها سنوات طويلة إلى أن كشفت الصدفة وحدها حقيقة الأمر مع الطفلة الثالثة وعشرة أعوام في الظلام. وفي جوف الظلمات، بزغ بصيص الأمل وبريق النور وابتسامة خمرية وصاحبة العيون الخضراء الحانية ووعد بزواج مع العودة لأحضان الخليج الدافيء.

وبدون وعي منه، هب ثائراً، هائجاً، صارخاً في صمت ومتأملاً في سكون.. وكلمة «لا» تتردد بين حنايا الصدر المفعم بالذكريات.. ويأتي القرار من جديد.. لحظة فاصلة أخرى ونهاية لمهزلة جديدة تراءى له أن ينهيها قبل أن تبدأ.. استسلم للصراع الداخلي.. نعم، يعشقها كل العشق.. نعم، هي له الملاذ والملجأ والفرار. نعم، هي سبيله للهروب من سجن الواقع.. أنانيته صورت له كذلك.. لا تزال علامات الاستفهام آخذة في التعالي.. أولاد من جديد؟ منزل ثالث في مدينة جديدة؟ رباط مقدس أم خيط واه للتعلق بأحلام زائفة؟ الحب أم المسئولية؟ الغد أم الماضي البعيد؟ صفحات الأمس أم سطور المستقبل؟ أسئلة.. أسئلة.. أسئلة.. دون إجابات ومزيد من التساؤلات.. كثير من الاستنكار والأكثر من الدهشة.. دهشته من نفسه وحياته المهلهلة من حوله.. أوهام.. ومزيد من الأوهام.. وفنجان القهوة البارد لا يزال بيده وسيجارة تلو الأخرى لتنتهي العلبة الجديدة وتصمت الأصوات من حوله.. تخبو أضواء المدينة الصغيرة ويغشى الليل والصقيع أرجاء المكان.

ومن قلب الطرقات الخاوية وبصيص خيوط الفجر الأولي، توقف شريط الذكريات ومعه عجلة الزمن الدائر.. صورة ما بدت أمام الأعين الحائرة.. طفلة صغيرة هي آخر العنقود.. شعر ذهبي مجدول وفستان قصير ولعبة بيدها الصغيرة ووردة حمراء تهديها إياه باليد الأخري وضحكة من القلب.. نعم.. ضحكة من القلب.. قرار لا يجيء.. أمس لا يزول وغد لا يعلم إن كان آت بالخير أم مزيد من الهموم.. قرار على حافة الهاوية.. وفجأة تقهقر.. عودة سريعة للخلف.. ومع عجزه عن التفكير، انطلق يقطع الطرقات ركضاً من تلك الصورة الصغيرة التى تلاحقه.. ذلك الطيف الحاني يطارده.. أخذ يستغيث.. يصرخ.. ومن جوف صراخه.. توقف.. تسمر بمكانه.. تعثرت خطواته فتوقف.. قرار.. وجب اتخاذ القرار.. لا خيار ولا فرار.. قدر وعلينا الإسراع به.. الحياة قرار.. لك أم عليك.. بك أم ضدك.. ولا فرار.. الهزيمة قرار والنصر قرار.. الكل سائر لقدر والنهاية أبداً قرار.. ينصهر العالم بقرار.. تنشب الحروب بقرار وتخمد أيضاً بقرار.. أيامك بمجملها قرار.. متى شئت وكيفما شئت.. واقف هو بمكانه صنماً جامداً والصورة أمامه.. ماذا يريد.. وكيف يريد.. وما الثمن وراء ما يريد.. وله مطلق الحرية وله الخيار.. وأبداً ودوماً عليه أن يسدد ثمن الاختيار.

إقرأ أيضاً

أحدث المقالات

إعلن معنا

  • Thumb

الأكثر قراءة

فيسبوك

إنستجرام