«ما حدش له عندى حاجة، هو ده النظام، أيوة عانس وبمزاجي وإن لم أتعد بعد السن القانونية للزواج، عانس وإن لم أستوف جميع الشروط اللازمة لحمل اللقب، عشمى فى لجنة الرأفة كبير، عانس بإرادتي الكاملة وحريتى المطلقة وحق تقرير المصير الذى يكفله لى الدستور والقانون والشريعة والعرف وكل الأديان. قررت أن أكون عانساً وليذهب المجتمع وكل الرجال إلى حيث يشاءون ولا أريد حتى من باب الفضول معرفة وجهتهم وإلى أين يتجهون»،

إنطلقت تلك العبارات الحادة سهاماً قاتلة وقنابل موقوتة من النوع سريع الاشتعال فى سرعة متدفقة متلاحقة كقذف المدافع الرشاشة في حرب عصابات غير منظمة بثورة وغضب وسخط وعنف وتمرد وكل العصيان. نعم، إنه قرارى الأخير والأكثر صرامة ووسام سأحمله وأفخر به، أول قرار صائب أتخذه على الصعيد الشخصى برغبة وطواعية بعد سلسلة حلقات فارغة وصور متناثرة وألواح زجاج مشروخ، عقب دوامات غائرة من العلاقات المستحيلة ومحاولات مضنية من جانبى باءت جميعها بالفشل فى فهم ذلك الكائن غريب الأطوار، سريع الاشتعال، شديد التقلب ويدعى الرجل!! أخفقت كل الإخفاق وباءت كل التحليلات والرسومات الهندسية والاستنتاجات الميتافيزيقية المنطقية واللامنطقية ودراما الخيال العلمى وأحكام القلب والعقل بكل الفشل فى فك طلاسم مخه وحل رموز عقله المعقد وقلبه الخاوى وشخصيته شديدة التعقيد وحياته المركبة.

وطبعاً لأنه رجل، لا يرى نفسه سوى طفل صغير مدلل بعض الشئ يحتاج فقط لرعاية من نوع خاص وعناية فائقة من النوع الممتاز فئة (أ) فرز أول ولأن حواء كما يراها وأكيد رؤيته ثاقبة وسليمة ونافذة مخلوق هامشى ثانوى فلم ولن تكلل جهودها المضنية فى التعامل معه بالنجاح ولن تأتى سياستها مهما بلغت دقتها بالتوفيق، فلسفة ذكورية بحتة مقابل صرخات نساء تتعالى من حوله.. عانس.. عانس.. عانس، أتمنى أن أصبح عانساً ولا أتعامل معك وإن كنت يا ابن آدم السبيل الأوحد لتغيير الصورة وتعديل المسار والفرار من ذلك اللقب الذى استحدثه مجتمع ذكورى ظالم وتناقلته الألسنة وتداولته أقلام الكتاب وأعجب به معشر الرجال كإحدى قضايا العصر الهامة وكأن العنوسة حكراً على النساء ولا ينال منها آدم نصيبه باعتباره أيضاً لم يلحق بقطار الزواج.

وللحق، أرى كلماتى ستروق لمعشر النساء والصديقات وأنصار المرأة من أعضاء جمعيات المرأة المتوحشة وغيرها بيد أنها لا تصلح لبداية قصة أو موضوع مقال من النوع الذى يجذب القارئ ويتسم بالموضوعية والشفافية التى نبحث جميعاً عنها. تبدو مجرد خواطر ثائرة، صرخات متمردة، نقاط سوداء متناثرة على رقعة الأوراق البيضاء الممتدة أمام القلم المنطلق فى ثورة وغضب، مجرد كلمات جوفاء تحوى فى باطنها ثورة الغضب وكل التمرد على المجتمع، على الموروثات، على ثقافتنا العريقة، على الرجال والنساء معاً، على العالم من حولى ونفسى قبل الجميع!! تعديت الأربعين وإن لم أشعر قط بمرور قطار العمر سريعاً فأنا مثله أركض معه، لم تتخلل شعيراتى القصيرة خصلات بيضاء ولم تبد ملامح الزمن من تجاعيد رقيقة وخطوط دقيقة على وجهى الصغير.

لا تزال روحى الطفولية وتصرفاتى الصبيانية تشوب العقل الذى ينمو ويتسع ويزداد نضجاً يوماً بعد يوم. لا تزال ملامح البراءة والتلقائية وكثير من العفوية تغلف تفاصيل حياتى التى باتت أكثر اتزاناً مع تراكم الخبرات وسنوات العمر تركض فى هدوء وسكينة. إتسعت أعمالى وتوالت نجاحاتى المهنية اللافتة، دائرة المعارف والأصدقاء فى تزايد مستمر، طموحات لا تهدأ وأيام تأتى كل نهار بالجديد. وفى خضم صخب الحياة وضجيج الأيام المكدسة بكثير من التفاصيل والألوان والصور، أفقت على واقع أحياه ولا أملك القدرة على تغييره رغم تملكى التام لزمام أمور العالم من حولى. كان قرارى شابة بإرجاء فكرة الزواج حتى إشعار آخر فلكل مقام مقال ولكل زمن رونقه ولكل حقبة حلاوتها ولكل موضوع حبكته الدرامية ولكل عصر بريقه أو هكذا فلسفت لنفسى الأمور صغيرة فى العشرين. تمنيت النهل من رحيق الحياة وسيأتى الزواج حتماً فيما بعد وجاء بعد ولم يأت الزواج.

مضت سنوات العشرين وكان لى ما أردت وتعديت الثلاثين ولم أعبأ ومع انتصافها، بدأ التفكير الجدى فى البحث عن شريك، رفيق لما تبقى من العمر وأنيس لرحلة إستمتاع بعد سنوات كفاح مضنى وأيام السعى لإثبات الذات. حان الوقت لبناء الأسرة واستكمال الشكل الاجتماعى وبرواز أنيق يغلف الصورة الكاملة التى رسمتها بمخيلتى. وكانت المفاجأة، حسبت الأمر هيناً بعكس المقولة الدارجة بتواري الفرص مع تراكم السنوات، من قال هذا؟ الفرصة دوماً هناك والمعروض يفوق الطلب بيد أن اختياراتى التى أمست أكثر دقة وتحليلاتى التى أمست أكثر سرعة وبصيرتى التى ازدادت نفاذاً ورؤيتى التى صارت أقرب للواقع منها لحلم أسعى خلفه حالت دون بلوغ الغاية وتحقيق المراد فالرجال ويا أسفى عليهم قل تواجدهم أو اختفوا فى ظروف غامضة والبقية الباقية فرز ثانى أو ثالث لا يصلح سوى للتحول من حمل لقب عانس إلى لقب مطلقة!!

علاقات عابرة أفنيت فيها أياماً وشهوراً مجملها سنوات من التيه والضياع ومزيد من الحيرة وربما اليأس، سلسلة من الأفلام الروائية القصيرة المهلهلة لكل منها بداية سعيدة ونهاية غير متوقعة، صور باهتة لأشباه رجال هم فى الأساس ذكور حسب النوع الوارد بالرقم القومى بيد أنهم خالفوا كل الاختلاف تلك الصورة التى حملناها صغاراً وأحببناها شباباً وآمنا بها طيلة سنوات عمرنا على أنه ذلك الرجل الفارس المغوار على حصانه الأبيض يخطب ست الحسن ويبذل لها العطاء والتفانى وكل العشق وسؤال يحاصرنى أينما حللت لماذا لا تتزوجين؟ ألا تخشين شبح العنوسة؟ ألا ترهبين البقاء وحيدة خلف الأبواب الموصدة بين الجدران الخاوية وسنوات العمر تمضى وناقوس الخطر يدق بعنف إيذاناً بالخطر الوشيك؟ من كثرة السؤال ذاته وتكراره، مللت وسأمت وعلت بوادر الكآبة والسخافة والاشمئزاز ملامحى وبدت واضحة للجميع دون مواراة أو خجل.

فى باديء الأمر، كنت أبحث عن تحليلات وتفسيرات وإجابات شافية من نوعية «قسمة ونصيب ولم يأت النصيب بعد، الزواج مشروع مقدس ينبغى توخى الحذر مع الإقدام عليه، لا داعى للاستعجال فاختيار الرفيق مسألة مصيرية.. أتمنى والله الارتباط لكن هو فيه رجالة دلوقتى!» وغيرها من تلك الإجابات الوقورة حيناً والساخرة فى أغلب الأحيان، مجرد محاولات منطقية لردع الفكرة مقابل استهجان واستنكار من قبل المحيطين ونظرات استفزتنى وآلمتنى فعلمتنى ضرورة الدفاع عن النفس والاستخفاف بما أراه سخفاً ومهانة. نعم، استفزتنى تعليقات الأصدقاء المستمرة وأغلبهم من الذكور من دفتر استمارة (6) الذى أحمله معى وتلاحق علاقاتى التى باءت جميعاً بالفشل ليأتى سؤال صديقتى المذيعة الشابة عن شبح العنوسة على الأبواب القشة التى قسمت ظهر البعير ليفجر بداخلى ثورة كامنة وبركان غضب ساكن ليخرج المارد من قمقمه بكل العنفوان والغضب ومنتهى القوة!!

حاورتنى فآلمتنى وأثار الألم كل استفزازى، سؤال بسيط يحمل بين طياته مهانة وظلماً ومنتهى القسوة. ولدهشتى ودهشتها معاً، انبرت عباراتى هادئة سلسة فى رزانة رغم الثورة وسلسلة من التساؤلات. من استحدث هذا اللقب المبتكر؟ ماذا تعنى العنوسة؟ من هى العانس ومن وضع لها هذا الإطار؟ ولم إلتصق بها اللقب دون الرجل رغم كونه الطرف الآخر؟ ما هى سن الزواج؟ ومن ينصب نفسه الحكم؟ ومتى يصبح كلاهما عانس؟ وفقاً للمعجم العربي، العانس هى من فاتها قطار الزواج ولم تلحق به وهو علم مذكر يصح على الرجل والمرأة معاً. قديماً كانت الفتاة تصبح عانساً فى العشرين واليوم ومع تأخر سن الزواج أمست فتاة الأربعين على مشارف العنوسة أو تكاد.

إذن فلست عانساً بعد وإن اقتربت بعض الشئ فمازال الوقت متسعاً للقاء الشخص المناسب أو غير المناسب فالمطلقة اليوم أوفر حظاً وأكثر قدرة على الاختيار لزيادة الطلب عليها من قبل الجميع ممن سبق لهم الزواج أو لم يسبق ثم العكس هو الصحيح فالرجل كما ورد بجميع الحضارات والثقافات والموروثات والمستحدثات هو من يدق باب المرأة طالباً القرب وهي الخطوة التي احتفظ الرجل لنفسه بمطلق الحرية في اتخاذها رغم الحرية والمساواة التي طالما تشدق بها وتظل المرأة قابعة لا حول لها ولا قوة في انتظار الطارق ولا يأتى، في انتظار عريس الغفلة الذي قد يأتي وقد يختفي في ظروف غامضة مع ضحايا الحرب وأسرى النكسة.

إذن فالرجل مسئول مسئولية كاملة عن المشكلة وبيده جزء أساسى من الحل، هو الذي أضرب عن الزواج وازداد تعقيداً واختلط لديه الحابل بالنابل، لا يجيد فن الحديث ويأتى بالفعل للتأكيد انطلاقاً من مبدأ «الرجال أقوال لا أفعال». وساعة الجد، يتراجع عن مواقفه ويتناسى أفعاله فأنت «فهمتي غلط» وهو «مجرد صديق» إذن بريء هو من تهمة الاهتمام والإعجاب على وضوحها. وفى مقولة أخرى، يتكلم كثيراً ولا يأتى بالفعل الصريح وساعة الصفر يحتفظ لنفسه بحق الانسحاب حين يشاء ودوماً يشاء وجرح غائر فى قلب امرأة لم تأت بسوء ولم تتوقع غدراً ولم يجل بخاطرها شبح الخيانة على الأبواب.

وتلوموننى وأمثالى وتستنكرون علينا حق تقرير المصير وتتساءلون عن العنوسة في زمن ذكوري انفرد فيه الرجل بمقاليد الأمور مطيحاً بالموروثات والتقاليد والشرائع والأحكام والأعراف وكل الأديان.. في زمن غشاه اللون الرمادي فلا عاد بياض الثلج ناصعاً ولا أمست حلكة الليل سواداً بل مجرد انعكاس للأضواء المتناثرة من حولنا كيفما نراها أو بصورة أدق كيفما نود أن نراها.. مجتمع ظالم أصحابه جاحدون وتقاليد بالية وموروثات مستهلكة تلقى بظلالها على كاهل المرأة بكل السلبيات وتنتهك حرمة أيامها الحالمة بعنف لا مثيل له. نعم، انطلقت حواء على درب الحياة وما العيب فى ذلك؟ ناطحت الرجل وتفوقت عليه وحاربته بكل أسلحتها وأبداً ظلت تبحث بداخله عن الأليف وأنيس الوحشة ورفيق الطريق الممتد، تحررت مادياً ومعنوياً ومع اتساع رقعة التحرر، ازدادت التصاقاً برغبتها فى المثول بين أحضانه وازدادت حاجتها إليه، ترى فيه أليف الجدران الخاوية أبداً بدونه فلا حياة لها بدونه ولا سكينة له بمنأى عن أحضانها الدافئة وابتسامتها العذبة التى تمسح عنه عناء الحياة، تحبه فتعانده لتتهاوى أبداً أمامه، وبتفكيره القاصر وعقله الضحل وأفقه الضيق يكيل لها العناد بمثله ناسياً أو متناسياً حقيقة الكون وقانون الطبيعة لرجل وامرأة هما سر الحياة وأصل الخلود وأساس الحدوتة التقليدية القديمة ومنتهى القوة والضعف معاً، ازدادت خبرتها فاتسعت رؤيتها لتصبح أكثر عمقاً وأكثر قدرة على التحليل والتدقيق واتخاذ القرار فبدا لها آدم على حقيقته الهزيلة وواقعه البالى الأليم، تلك الصورة الباهتة الممزقة التى أرفضها وتشاركنى الرفض بنات حواء.. كل النساء.

عانس.. ولم لا؟ ما عاد الرجل رجلاً وما أمسى آدم لى السكينة والأمان.. عانس.. ولم لا؟ بإرادتى أختار العنوسة عن الرضوخ لتلك الصورة المشوهة لكائن كان لى يوماً أباً وأخاً وحبيباً وصديقاً وأملاً وحياة، كان لى الحب والملاذ ومنتهى الثقة وأصل السعادة ولم لا أصبح إذن عانساً بإرادتى وباختيارى ما دامت النتيجة حتمية وواحدة لا تتغير. نعم، أنا عانس بإختيارى ولتوخى الدقة سأصبح عانساً بإختيارى ما دام الرجل عاكفاً عن العطاء والبذل والاحتواء ومفتقداً لأساسيات الحوار وقوامه لسان طلق ومنطق قوى وسلاسة فى التفاوض وحجة عند الحاجة. أنا عانس بإختيارى إزاء كائن أنانى، ذاتى، متوحد. نعم، أنا عانس باختيارى وليس للعالم سلطان على ولا قرار، حلمى معى يداعب مخيلتى وأملى كبير فى عودة الغائب ولقاء المفقود التائه، آدم القديم طبعة الألفية رفيق الدرب المرتقب.

وليمضي العمر كما يشاء ولتركض السنوات كل الركض وليمتزج الأمس بالحاضر والغد والمستقبل البعيد، سأختار كما أريد وأصنع ما أريد، لن أحاول جاهدة إيجاد التفسير المنطقى، لن أنبش بين مفردات اللغة على الحرف السليم والجملة الصائبة ولن أرهق ذرات عقلى الثمينة فى محاولة إيجاد الوسيلة المثلى لإقناع الغير بسبب تأخري عن الزواج فليحسبوه بإرادتى أو رغماً عنى لا يهم فالأصل قرار واختيار وتصميم على الموقف وتمسك دائم وصارم بالمبدأ، سأظل عانساً حتى أجد من حتماً يستحق، سأظل عانساً حتى إشعار آخر وعلى المتضرر اللجوء لكتاب التاريخ ليقرأ بين سطوره روائع قصص عظمة الرجال وبأسهم وتفانيهم فى العشق والهوى ويطالع فرسان الزمن الجميل فى محاولة غير عادلة للاقتباس.

وحتى أجد الرجل المناسب، سأظل عانساً مع إيقاف التنفيذ، يا أهلاً بالعنوسة متى صاحبتها الكرامة والكبرياء فبين الحب والكرامة شعرة، لن أقطعها وبين الرغبة والأمل وتحقيقه طريق طويل سأقطعه بعقل وروية، لن أخشى شبح العنوسة بل سأحمله وساماً على صدري وأزهو به متى حللت.  وحالياً أتساءل، هل وجدتم الإجابة الشافية عن السؤال السخيف والتعليقات الأكثر سخافة، عانس أنا بإرادتى ومن يجد آدم المفقود التائه فى ظروف غامضة وملابسات شديدة التعقيد، من يجد هذا الآدم رجاء حاراً من أختكم حواء يعطيه العنوان.

إقرأ أيضاً