من كم السفر وكثرة الترحال وسرعة الإنطلاق نحو آفاق بعيدة.. كثير من المرح.. كثير من الألم وسعى دائم خلف مجهول ىشدك لمزيد من الركض والإنطلاق وصوت يناديك أينما ذهبت. وعند نقطة ما، قد تأتى سريعة، أو يأخذك الزمن سنوات وسنوات.

تبدو علامة صغيرة.. بصيص وميض خافت.. حادث يستوقفك.. علم من أعلام الطريق.. عرض طارئ أو حدث عابر.. فعل قدر مفاجىء أو تخطيط مسبق.. جميلاً.. قبيحاً.. لا يهم.. ثرياً أم فقيراً.. لا يفيد.. فالأصل كونك لم تره أبداً من قبل، سرعة الركض حالت دون استمتاعك بتفاصيل الرحلة من حولك وشدة الضجىج علت على أصوات العصافير تغرد وألوان الورود تتفتح وطىف الربيع يزهو مرحاً على الأبواب.. حقاً ما أحلى الحياة ومتى أدركناها؟ وما أبهى تفاصيلها ومتى فهمنا مغزاها؟ وما أعذب السعادة  ومتى تذوقناها؟ وما أبهى البدايات، ومتى تذكرناها!!

الأصل فى بنى آدم سرعة الركض وشدة الهرولة.. نجرى بسنوات عمرنا حتي تنتهى ونلهث بدقات الساعة حتي تصمت ونركض خلف أحلام لا تجىء وآمال لا تتحقق.. فلا عشنا اللحظة ولا جاء الغد ولا كان الأمس ولا أصبحت الحياة!! وفقط عند النهاية، ندرك كم كان الأمس جميلاً ولم نره.. كم كان الطرىق زاهياً ولم نلحظه.. كم كان الميلاد عذباً ولم نستمتع بجماله وكم كانت النهاية بداية جديدة ولم ندرك مغزاها.. سؤال حائر بىن السطور.. أين متعة الحياة ومذاقها العذب؟ افتقدناه مع سرعة اللهث خلف مجهول لا يأتى وسراب خادع يلمع بأضواء مصطنعة.. بريق زائف.. ألوان متداخلة.. خطوط متشابكة.. تحسب زجاجه ماساً وترابه ذهباً ووميضة نوراً ورفاته كل الحياة!!

وعند نقطة ما، تسقط الأقنعة.. تبدو الحقىقة عارىة.. الحب.. الخير.. الجمال.. الأمل.. الذكرى.. حفنة تراب جئنا منها.. بذرة من أرض نشأنا عليها.. عانقناها صغاراً لننسلخ منها كباراً فنلهو بالحىاة وتلهو بنا أىام تتقاذفنا.. تلاحقنا.. تعاندنا.. تأخذنا من جذورنا.. تقتلعنا من أصولنا.. فتحرمنا من حياتنا.. ومزيد من الركض على أرض رحبة تتسع بقدر شوقنا لمزيد من الركض واللهث ولنقل الحياة..!! ريح عاصفة تأخذنا من الأرض.. من التراب.. من الوطن.. لنعود إليه كهولاً أو لا نعود..!! وتبقى فى القلب غصة.. دمعة.. حنين لذلك الكائن النائى.. لذلك الكوخ الصغير.. لتلك الرمال الناعمة.. لسحر غامض.. لوميض ساحر.. لشىء اسمه الوطن!!

الوطن.. الأرض.. الماء والهواء.. تلك الكتلة الصلبة والصخرة الشامخة.. أمى وأبى وما تبقى من ذكرياتى.. شارع مدرستى الصغير.. دكان الحلوى على قارعة الطريق.. دقات الجرس الثائر كل صباح.. ملعب الكرة الطائرة وصالة الموسيقى.. أخى الصغير الحبيب يمرح فى الفناء وتلهو معه سنوات أعمارنا المتقاربة والمتشابكة.. سينما صيفية مكشوفة.. بائع الدوم ودود القز.. قلادة جدتى أهدتنى إياها فى عيدى.. قالب الحلوى وشمعة مضيئة تزداد عاماً بعد عام.. حفنة من ذكريات ولت وتركت فى القلب سطراً لا يمحى وفى العين دمعة لا تجف وفى القلب ذكرى لا تزول!! أستاذ اللغة الفرنسية.. فناء رحب.. باكورة مشاعر جارفة.. صوت فيروز العذب وموسىقى البيانو الصغير.. لوحة زيتية على جدار.. وردة ذابلة على قارعة الطرىق.. أمى ودروس الفصل المدرسى وابتسامتها العذبة تمحو هم اليوم وكرب الغد وتبث فى الروح الأمل وفى القلب الحياة وليالى الشتاء الطويلة.. ضجىج المدينة على أعتاب الخريف.. ربيع ولى.. ومرح صيف لا يزول.. رفات أبى ترقد فى صمت وذكريات أيامى معه.. ذكريات.. ذكريات.. ومزيد من الذكريات..  صور تتوالى سريعاً.. مزيد من الصور.. قصص وحكايات.. أمس يبدو بعىداً وغد يتجدد.. حلم يتحقق وأمل يأتى دوماً بمزيد من الحلم ومزيج من اليأس والأمل وكثير.. كثير من الذكرى!!

ولكل بذرة أرض.. ولكل أرض روح.. ولكل روح حياة.. ولكل حياة وطن.. الوطن!! كلمة صغىرة تحمل بىن جوارحها كل المعانى.. مرادفات متتالية وجميع المتناقضات.. أصل البداية وختامها.. أول المشوار ونهاية الرحلة.. هدف واحد وكل الأهداف.. حدوتة شقية من حروف نقية.. بلورة ذهبية شفافة بها عبق ماض ولى وغد لا يجىء.. رحلة نبدأها صغاراً.. خطوات متعثرة على درب شقى.. نكبر وتكبر معنا أحلام صغىرة وآمال كبيرة.. ويظل حلم الوطن سراباً ينمو بداخلنا متى حيينا.. أم تحملنا.. وأب يرعانا.. أرض تعلو أشجارها ظلالاً دافئة تطل على ساكنيها بأمل ورغبة وشوق. الأصل فى الوطن أن ترسو السفينة ويستقر الباحثون.. ولأن الذكرى وطن.. ولأن الحب وطن.. ولأن الحلم وطن.. ولأنك وطنى.. أحبك!! كما الآخرين.. كما البذرة الصغىرة تبحث عن منبت بالأرض الرحبة.. كما الشمس تبحث عن سماء تنيرها والنجم عن ليل يضيئه والقمر عن فضاء يسطع فىه بنوره الأخاذ، نبحث عن وطن.. نجوب الأرض بحثاً.. نطالع السماء دعاء.. نتوه فى الدنيا سعياً.. ونبحث عن وطن!!

ومن قلب المدينة الساكنة فى ضجىج صامت، تتعالى أبواق السيارات.. تتعانق الشوارع الفارغة.. يتقابل الغرباء ليتلاقوا ويفترقوا دوماً من جدىد.. يتوافد المارة أفواجاً.. تطالع المدينة الهادئة ساكنيها.. ومن حلكة الليل الدامس، يعلو صوت أمى الحانى، خلفية لصورة ما.. أصل لحكاية وبداية لقصة جديدة.. أمى وطن!! ولم لا.. أمى الاجابة لسؤالى الحائر.. لشتات قلبى ونفسى الشاردة.. أمى، مرسى السفينة ومحط الرحال.. توأم الروح وقبلة الحائر المشتاق.. أتكون أمى الوطن؟؟ ومن جوف ذلك الشارع النائى، تبدو خيوط النور الأولى.. يلمع فجر جديد.. يفل المارة.. ويهدأ الضجيج.. تسكن الريح.. يعود الغائب أو لا يعود.. يجىء الحلم أو لا يجىء.. تسكن الأبواق لتعلو من جدىد.. وتبقى الأرض أماً.. نوراً.. نبراساً وعشقاً.. وتبقى الحقيقة الوحيدة الصامدة.. الشامخة.. العالية.. الواعدة.. تشع برىقاً وتضىء نوراً. ومن توالى الصور وتكرار المعانى، تأخذنا  الدهشة.. كثير من الدهشة وتبقى فى القلب غصة.. وفى العين دمعة.. وفى الروح ذكرى.. لشىء اسمه الوطن!!

إقرأ أيضاً

أحدث المقالات

إعلن معنا

  • Thumb

الأكثر قراءة

فيسبوك

إنستجرام