نجيد وضع الخطة عند المعركة.. نحدد الهدف بدقة.. نركز علي البدائل.. نستثمر الوقت والجهد والزمن في البحث والتنقيب في كافة التفاصيل -صغيرها وكبيرها- ومراجعة أجزاء الصورة متصلة ومنفصلة.. تلهمنا الحرب أهدافاً وراء أهداف ولا تتوه الاستراتيجية الموضوعة سلفاً والخطة المحكمة.. ونعجز وقت السلم عما نبرع فيه حين يأتى وقت المعركة.. يتوه منا الهدف أحياناً ويغيب عن أذهاننا المتوهجة الفكر الاستراتيجي والتخطيط الدقيق.. والنتيجة مزيد من التخبط وكثير من الدوران والنهاية إلي اللاشيء.. ومزيد من علامات الاستفهام.. أو الاستعجاب.. أو قل مزيداً من اللاشيء!!

والسؤال ليست عسيرة إجابته.. وقلما تختلط علينا الأمور وتتشابه الحقائق.. ولكن متي جاهر الإنسان بحقيقة تؤلمه أو واقع مؤسف يحيط به ويفرض عليه كثيراً من الجهد في البحث والتفكير.. فدوماً ما يسهل علي المرء تقبل واقع يؤلمه.. الشكوي من مصير لا يروقه أو الاستياء من حالة يعيشها أو يتعايشها.. يحياها ويحىا بها.. لكنه أبداً لا يبذل جهداً قدر جهده في رفض مصير لا يسعي لتغييره والنتيجة واحدة.. شكوي دائمة وواقع لا يتغير.. يتوه الهدف الذي لم نسع -أبداً- لتحديده.. تتعدد المعاني التي لم نميزها بدقة وعناية.. وتختلط الأوراق التي لم نفصلها.. ننقشها.. ونرسمها لتقودنا -نهاية الأمر- إلي ذلك الواقع الذي نرفضه دون أن نجد البديل.. لماذا؟ كيف؟.. ولم؟.. والحل بسيط.. حدد هدفك أولاً.. ارسم خريطة الطريق.. ضع البدائل.. اختر الحلول.. ضع الاستراتيجية العامة واجعلها مرنة قابلة للتعديل والتطوير وربما الهدم وإعادة البناء.. والأهم ضع نصب عينيك -دوماً- الخط النهائى.. نقطة البداية.. هدف النهاية.. وما بينهما.. اكتب السطور.. واجعل منها فقرات متصلة.. حدد محتوي الكتاب ولا تجعل أوراقه تسحبك بعشوائية إلي تفاصيل لا تعنيها وفرعيات تأخذك من الأساس.. بل تجرك إلي المزيد منها ليتوه -في النهاية- عنوان الكتاب الذي لا يعكس مضمونه بل يحمل صفحات من الفوضي والقلق والاضطراب.

رحم الله أبي الذي كان دوماً يردد علي مسامعي تلك المقولة الشهيرة «الشياطين تكمن في التفاصيل»، منذ صغري أسمعها كثيراً ولا أعي مضمونها كما كان يريده.. أدركها بحكم إدراكى العميق لمفردات اللغة ولا أفهمها قدر عجزى عن فهم الكثير من المعانى المختبأة فى بطن الشاعر.. كان أبى صائباً حين كانت رؤيته تركز علي لب السؤال دون الدخول في تفاصيله وفرعياته.. فالنظرة الشمولية أعم وأقدر علي تحديد الحالة..وتوضيح الهدف -بدقة- يجعل الوصول إليه أهون من قدرتنا علي استيعاب الكثير من الفرعيات التي تقودنا للمزيد منها والنتيجة.. لا شيء!! حين كنت أهرع إليه بقضية أراها هامة أو موضوع يشغلني، كان سؤاله الدائم لا أسمعه.. فأنبري -منفعلة- في سرد مزيد من التفاصيل والموضوعات ليعود بي لنقطة البداية.. وما النتيجة النهائية.. وما الهدف البعيد؟

ومع لهفتي في سرد المزيد من التفاصيل، تتوه عنى إجابة السؤال.. ولا يكف عن تسائله ولا أحيد عن رغبتي في أن يستمع لي ومزيد من التفاصيل.. وكان رحمه الله يستمع.. وينصت بإصغائة وهدوئه المعهود، وفي نهاية القصة التي قد تستغرق ساعات طويلة يعود بي -دوماً- للب السؤال.. وما الهدف.. سؤال بلا إجابة.. وعلامة استفهام لا أجد ما يفك شفرتها ويحل طلاسمها إذ أنني بالفعل منذ البداية لم أحدده! ومع سنوات العمر المتتالية وزيادة الخبرات المتراكمة وكثرة المسئوليات وتعددها، وجدتني دون دراية مني أقتبس كلماته لأرددها علي مسامعي قبل الآخرين، أحاول تحديد الهدف بدقة أولاً قبل أن يجرفني تيار التفاصيل إلي قصص لا تعنيني وموضوعات تقل أهمية بزيادتها وأفكار تتوالي دون رابط منطقي يجعل منها سلسلة متصلة من حلقات شتي يجمعها هدف واحد ليصل بها إلي الصورة المكتملة.. كانت رؤيته صائبة وكانت نظرتي قاصرة في كثير من الأحيان وإن كان الهدف مشتركاً.. كان يجيد تحديد  ما يريد وكنت أتوه بين التفاصيل فأبتعد عما أرغب في الاقتراب منه..ربما كانت خبرته مقابل قلة سنوات عمري المحدودة آنذاك.. أو ربما طبيعته القائمة علي كثير من التحليل والدقة والرغبة الدائمة في اكتمال الإنجاز ورسم الصورة كاملة العناصر ومكتملة التفاصيل. ومع مرور سنوات العمر، وتتابع أجيال كانوا صغاراً فلما كبرنا كبروا معنا وأمسوا شباباً يقتبسون القدوة والمثل من سنوات أعمارنا التى تراكمت وكنا نراها محدودة.. تبدلت الرؤى.. وتغيرت المفاهيم.. وتنوعت الخبرات لتصقل الرؤية البعيدة المدى.. وتجعل استيعابنا لأمور الحياة مختلفاً لدرجة التباين وربما التناقض الشديد بين الماضى والحاضر وربما المستقبل سيأتى أيضاً بمزيد من التغييرات.

كلنا نعيش.. نحلم.. نخطط.. وندعي كثيراً وضوح الرؤية و صواب الهدف، تمضى بنا الأيام فتسوقنا أقدارنا إلى نهايات عديدة ومتشعبة.. ولكن من منا يجيد تحديد هدفه بدقة وكيفية الوصول إليه.. تمضي بنا سنوات العمر فتغلبنا الأيام وتأخذنا تفاصيل الحياة. فيتوه عنا سر الوجود وأصل الحكاية.. وعند النهاية ندرك كم كانت لعبة الأقدار مريرة ونرى كم سخرت منا الأيام التى أطاحت بأهدافنا وأحلامنا.. وصور الغد فى أعيننا.. تغيرت معالمها أو شكلتها الأقدار كيفما شاءت وكيفما تشاء.. وتأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.. فتشتهي السفن ما تأتي به الرياح.. وكان بوسعها تغييره.. تهذيبه وإصلاحه.. وبعد فوات الأوان.. ومع خاتمة الرواية والسطر الأخير، ندرك حقيقة الكون وماهية الأشياء وأصل الحقيقة الغائبة وسر الوجود التائه.. بنظرة شمولية كاملة.. وخطة واضحة المعالم.. وأهداف محددة بدقة.. واستراتيجية مرنة تتواءم مع التغيير وربما التبديل الكامل.. يتحقق لنا ما نريد.. وماذا نريد؟.. وكيف السبيل لما نريد؟ سؤال إجابته في العقل والقلب والروح والوجدان.. وماذا نريد؟ علامة استفهام تبحث عنها متي جلست مع نفسك.. ومجموعة من الأوراق المتناثرة.. لتكتب وتحلم وترسم وتحدد هدفك أولاً.. فتصل مع فصل النهاية إلي كل ما تريد.

إقرأ أيضاً