يحدث كثيراً أن تقرر اتخاذ موقف.. ثم تجد نفسك أمام الاختيار الصعب.. المعادلة المستحيلة.. إرضاء نفسك.. إشباع غرورك وكبريائك.. أم إرضاء قلبك ومشاعرك والرضوخ لصوت النفس الخافت، الصارخ فى صمت فى مواجهة أحكام العقل وحساباته.. يختلف العقل مع القلب حيناً.. بل قل فى معظم الأحيان.. وتجد نفسك دوماً أمام ذلك الاختيار الصعب ما بين عقلانية الحسابات وروحانية المشاعر..
التصالح مع النفس أم التحلى بغشاء سميك من القوة الزائفة والصلابة الحديدية والإرادة العتيدة.. وصوت يتعالى بداخلك ويحثك دوماً على اتخاذ موقف.. وميض بداخلك.. شعاع خافت من نار تحسبها عينك الخادعة نوراً وبريقاً.. والحاح شديد.. اتخذ موقفاً.. تحلى بالصبر.. لا تلن.. ماذا يعنى إن جار عقلك على قلبك المكلوم.. وماذا يعنى إن تاهت مشاعرك بين طيات حساباتك العقلية البحتة.. وماذا يشكل لك فؤاد -يبدو أحمقاً فى كثير من الأحيان- فى مجابهة المارد العملاق ويدعى العقل.. مارد يتحلى بالقوة والصلابة.. لا يخطيء.. وكيف يخطىء.. وكيف تخطيء آلة حاسبة بداخله جبلت على الحسابات المجردة وتبرمجت على المكسب والخسارة!! أن تتخذ موقفاً.. أن تلمس بداخلك عيباً فتحاول إصلاحه أو التغلب عليه.. جميل.. أن تعيد حساباتك، بين الحين والآخر، فتمحو ما لا يهم وتركز على المحور والأصل متجاهلاً الصور الباهتة والعبارات الجوفاء والألوان الزائفة.. جميل أيضاً.. أما أن تختلق موقفاً.. ترسم بخيالك قصة أنت فيها البطل والجانى والضحية، فهنا لنا قول وقولان.. مائة علامة استفهام ومثلها تعجب واستنكار.. فارق كبير.. مقارنة مستحيلة.. كأن تقف مع نفسك للتقويم والإصلاح.. وأن تقف ضدها في محاولة مستميتة -فقط- لإثبات أنك على حق.. وموقفك -الفعلى أو المختلق- أبداً على صواب!! فارق أيضاً كبير.. أن تقف من الشريك موقفاً لتحديد ملامح الحياة وكيفية الوصول إلي الهدف المشترك وأن تختلق له دوماً سيلاً من المواقف التي تثبت من خلالها أنك الأقوى.. والأكبر.. والأقدر على إدارة تفاصيل الحياة مراهناً بذلك على قدرتك الفائقة فى فرض السيطرة والإدارة والتحكمات وإن كانت بالية فى كثير من الأحوال!!
جميع الدوائر الملتهبة فى النفس البشرية جاءت وليدة رغبة دفينة فى اتخاذ موقف.. وإن غاب الموقف، فبإمكاننا دوماً اختلاقه.. فى لحظة ما، تتداخل المعانى وتتشابك كل الصور.. ويصبح الهدف الأوحد.. موقفاً ما.. بسبب أو بدون.. لا يهم.. فالأصل دائماً إثبات القدرة علي التحلى بعلو الصوت، وإن لم تستدع الضرورة.. والعراك إن لزم الأمر ودوماً يلزم الأمر.. ليصبح الموقف البسيط معركة حربية مشتعلة.. تاريخ الإنسانية شاهد على ذلك.. جغرافيتها أيضاً التى تغيرت مراراً فى نتيجة حتمية لمواقف أغلبها واهية وغير منطقية والأجدى غير شرعية على الإطلاق.. تاريخ الحضارات ملئ أيضاً بالنماذج التى تثبت الواحدة تلو الأخرى أن الإنسان مولع باختلاق المواقف ليثبت أنه الأقدر علي اتخاذ موقف.. أقدر ممن؟؟ سؤال جيد وإجابته مضحكة ومبكية فى الوقت عينه.. فى رحلته الدائمة لمزيد من المواقف والوقفات والقفشات أو قل نقاط التحول الجذرية المطلوبة، كما يدعى البعض أو كما يحاولون أن يقنعوا أنفسهم دوماً لإضفاء قالب من الشرعية والحيثية على أى موقف عند الشروع فيه.. ربما لتبرير الموقف.. ولمن؟؟ سؤال آخر بلا إجابة واضحة.. أو إحقاقاً للحق، إجابة لا نريد أن نراها فنتركها تائهة بين السطور وباهتة بين الصور!! مائة علامة استفهام تتعالى فى صمت.. وأحياناً فى صراخ وضجيج وثورة عارمة تعج أرجاء المكان.. يثبت قوته لمن؟؟ يدلل على بسالته لمن؟؟ يعاند من؟؟ يواجه من؟؟ والأصوب عند السؤال.. يتحدى من؟؟ تساؤلات عديدة وإجابات متناثرة.. والأرجح أنه أقدر من نفسه على معاداتها.. يتحدى الإنسان نفسه ذاتها مثبتاً قدرته الفائقة على التغلب عليها وأسرع من ذاته على شن الحرب تجاهها لفرض السيطرة والإرادة ومنتهى القوة!! والنتيجة النهائية.. خسارة لكل الأطراف ونهاية درامية على غير هوى أبطال المسرحية الهزلية ولا مخرجها الذى هو ذاته البطل الأوحد وكاتب القصة ومدير الإنتاج!!
تقوم الحروب بلا سبب واضح.. لا هدف محدد.. بلا أجندة معلنة ولا حتى خفيةأحياناً.. يقرر فرد.. شعب.. وربما أمة بأسرها.. فى لحظة ما.. تفصل ما بين المنطق واللامنطق.. يقرر الجميع اتخاذ موقف.. وتأتى الحرب على اليابس والماء.. وتنتهى حيث يجب أن تبدأ.. تهدأ.. تخمد.. يكل الجميع من العراك.. وتخبو نيران المعركة.. تسقط الأقنعة.. تبدو الوجوه المنهكة.. والأعين الذابلة.. والقلوب المكلومة.. والأنفس الحائرة.. والأرواح الهائمة على غير هدى، وكان أمامها السبيل وضلته.. والطريق وأخطأته.. والمنطق وتجاهلته.. ومع وميض الضوء الخافت وبصيص السراب الخادع، تعلو آنذاك الحقيقة عارية.. مجردة.. سافرة.. قاسية.. عنيفة فى حكمها.. تواجهك بما لا تحب.. وما لا تهوى.. ما لا تبغى أن تسمع.. وكل ما لا تريد!! كان موقفاً واهياً.. خلقناه أو اختلقناه.. وفى النهاية، كان موقفاً!! يفترق الأحباء.. يتباعد الأصدقاء.. تتوه الكلمات على الشفاه المتلعثمة.. وتتساقط بقايا الصور البالية.. يضل الطريق ويتوه الهدف.. فى رحلة ما.. لاتخاذ موقف.. أو قل فى الأصل اختلاق موقف لا أساس له ولا وجود له سوى فى خيال مريض أو ضعيف!!
كثيراً ما نعاند أنفسنا.. نقف خلف الستار.. من كبرياء.. من زيف.. من كرامة.. من عزيمة أو قوة.. وهى فى الأصل صورة زائفة للضعف والهوان.. نتخذ موقفاً.. فيطول ويمتد معه العناد.. أفدنة من المكابرة والعند والتعنت.. ويستحيل التراجع.. فالخطوات قد جبلت للأمام ولا سبيل للعودة أو التقهقر للوراء.. ويعمل العقل جاهداًً لاختلاق التبريرات المنطقية لإقناع نفسه قبل الآخرين.. يستثمر الموقف لصالحه متباهياً بقدرته العالية على المقاومة وعزيمته الصلبة عند الشدائد واحتماله الذى لا يضاهى ولا يجابه وأبداً لا يلين!! وتدور الحلقة المفرغة.. شجار.. عراك.. ومع النهاية، موقف بلا أساس.. وأساس بلا مضمون.. ومسيرة بلا هدف!! هى عين لها عينان.. عين العراك تفتح الباب للعناد واللوم والثورة.. وعين العتاب تداوى جراح النفس إن كانت.. يغلق العتاب باب المكابرة ويفتح العناد ألف باب للنهاية.. يجعل العتاب القلب يصفو ويسمو وينسى.. ويحب.. ويجعل العناد العقل يشحذ همته ويعمل بكفاءة لاختلاق المزيد من المواقف وتقديم المزيد من المبررات الشديدة المنطقية لاستكمال الصورة اللازمة لحثه على المزيد من «اتخاذ موقف»!!
جميل أن تتخذ موقفاً.. أن تحدد متى.. وأين.. وكيف.. ولماذا ؟ والأهم بماذا تلتزم وعلام تحارب وكيف تسير ومتى تتوقف عن المضى قدماً.. والأجمل أن تنسى.. وتصفح.. وترضى.. وترضخ.. فتسعد.. وتهنأ.. ويروق البال.. وتصفو الأيام.. وتتعالى الضحكات.. وتبدو السماء صافية بعد طول غيوم.. الأجمل أن تحب.. ومتى أحببت ستدرك بالفطرة السليمة.. متى تقف من العالم.. ومتى تلين للكون من حولك وتتفادى بكل الصور اختلاق المواقف بلا مبرر أو سبب.