الآن أتذكر جدتي وقصصها الطويلة عن الحياة ودروسها وتراكم التجارب وتكرار الصور التي ترسم حصيلة ما نحمله بداخلنا من دروس مستفادة وأحداث توجه لأحداث أخرى وضرورة الانغماس في الشىء لاستيعاب الدروس المستفادة منه والخلاصة التي علينا حملها مع مشوار قد يقصر أو يطول. كانت -رحمها الله- مخزناً متنقلاً للنصائح والحكم والإرشادات.

لديها إجابة لكل سؤال ومغزى لكل حكاية ومضمون لكل محتوي وكنت أدهش لنصائحها علي كافة المستويات وإرشاداتها العملية التي كانت دائماً صائبة وجادة وهادفة، برغم كونها سيدة المنزل التي لم تعمل قط وكنت أتعجب كثيراً لاتساع دائرة معرفتها وغزارة أمثلتها بمجالات عديدة وخاصة علي صعيد العمل المهنى برغم نشأتها في مجتمع مغلق بسياج حديدي وعاشت جيلاً لم يكن لديه من المقومات والإمكانات ما لدينا من انفتاح واطلاع ووفرة في المعلومات والتجارب. كانت دوماً تكرر علي مسامعي أهمية وضع «خبرة السنين» دوماً وملياً بالحسبان وكانت دائمة التحذير لي بتحاشي الغرور بالخبرة والعلم والمعرفة بما لا يضاهى ما يقدمه الزمن من دروس حقيقية وفصول تتكرر بتكرار الزمن انطلاقاً من فلسفة أن التاريخ يكرر نفسه الأمر الذى يضاعف من أهمية الخبرات المتراكمة بتراكم سنوات العمر ومرورها وتوالى فصولها. ومنذ بدأت حياتي العملية، كانت السند الأكبر لي في مواقف كثيرة تجد فيها حلولاً شديدة المنطقية والصواب لأكثر المشاكل تعقيداً، فقط باستخدام العصا السحرية الخفية.. تلك الخبرة الغزيرة التي هي في الواقع حصيلة خصبة وصلبة من تراكمات سنوات طويلة من المشاهدة لفصول الحياة التي كانت تتوالي أمامها يوماً بعد يوم.

واليوم فقط أدركت مغزي الحكاية والمدلول الحقيقي لتلك الخبرة التي طالما ادعيت -شأني كشأن الكثيرين- أنني اكتسبت الكثير منها بفضل ثقافتي المتشعبة ودراساتى العليا وتفاصيل عملي الكثيرة والتي تكسبني مع كل يوم مهارات جديدة وثقافات مبتكرة وخبرات متنوعة وتذكرت قصة قديمة كانت تلقيها دوماً علي مسامعي بضرورة الانغماس كلية في الشيء لضمان تحقيقه علي النحو الأمثل وتعلم أدق تفاصيله التي قد تخفي عن العين المجردة وتخلو منها الكتب ودوائر المعارف وتفتقر مفاتيح ألغازها ورموزها صفوف الجامعات وفصول الدراسة ومواقع الإنترنت. وكما قالت جدتي، أفضل وسيلة لتعلم السباحة هي الخوض الفعلي بها كأن تلقى بنفسك في خضم الأحداث فتجبرك سرعتها علي الركض لملاحقتها والتفاعل معها وأسرع طريقة لتحقيق الهدف السعي دوماً ورائه أياً كان حجم الأخطاء التي من الممكن أن تقع فيها والصعوبات التي ستواجهها أو الثمن الباهظ الذي ستدفعه للوصول له وهو ما حدث لي بالفعل منذ بدأت الانغماس في العمل الخاص.

علي الرغم من أنه سبق لي -علي مدار سنوات طويلة- تولي مناصب إدارية عليا بشركات عديدة كان أغلبها من المؤسسات الكبيرة متعددة الجنسيات، إلا أنه -إحقاقاً للحق- تفاصيل العمل الخاص تختلف تماماً والتحول من مقعد المدير لصاحب المال له مردود آخر ونظرة شديدة التباين والاختلاف وربما أحياناً الانفصال عن الواقع الذي يحياه أي إداري أياً كانت درجته الوظيفية، منظومة مختلفة تجد فيها لكل حرف صورة مختلفة ولكل صورة ألوان جديدة كانت خافية عنك.. تجد للأرقام مدلولاً أبعد وأعمق وتجد التفاصيل أكثر تعدداً وتشابكاً.. والبدايات والنهايات شديدة التباين والاختلاف.. تتوه بينهما.. تأخذك التفاصيل صغيرها وكبيرها.. كثير من التفاصيل والخبايا التي كانت تمر عليك -فيما سبق- مر الكرام فلا تستوقفك وقد تسقط منك أو لا تعنيك بالقدر الكافى. قد يفلت منك زمام الأمور، فتختلط في ذهنك كثير من الصور وتتشابك وتتداخل اللوحات بألوانها وصورها.. قد تفشل أو تقترب من نقطة النهاية بعدما كان الحظ حليفك والنجاح ملازماً أبدياً لك.. وقد يحالفك الحظ فتسعد، وتسارع الخطى بما تعلم وما لا تعلم، فتجد من يحمل عنك العبء أو جزءاً منه ويتولي عنك بعض المهام.. ويبقى بداخلك التحدي.. وليد الصدفة التي جعلت منك ترساً في عجلة تملكها وتديرها فتسعدك وتستنزفك فى آن واحد.. ذلك التحدي الصعب الذى يكمن في ضرورة إلمامك بكل التفاصيل وإن صغرت واحتوائك لكافة الخبايا وإن قلت جميعها اليوم، فقد تعظم فيما بعد.

وللحق، من الأخطاء الصغيرة، أدركت الدرس الكبير.. ومن ساعات السهر، أدركت قيمة الاستقرار والراحة وهناء البال ومن ضرورة توقع الغد بمعطياته المجهولة والأمس بدروسه المستفادة بهدف التوصل لوسيلة مثلى للتعايش مع الواقع والحاضر بصعوباته وتحدياته ومشكلاته وتعقيداته التي لا تنفرج وتحديد تلك الأرض الصلبة التي علينا الوقوف عليها والمثول بين طياتها علي اتساعها وتراميها.. ومع دقات الساعة، تنبيء كل يوم بنهار جديد ومزيد من التفاصيل المتتالية والمتراكمة في سرعة متناهية، أدركت ذلك الثمن الباهظ الذي كانت تتحدث عنه جدتي.. ما أصعبها وأقساها وأحلاها متي بدأت فى التكوين.. خبرة السنين.. حصيلة تراكم الدروس وفصول الحياة ما بين حقبة وغيرها.. فقد تفشل رغم كل نجاحاتك وإنجازاتك السابقة.. وقد تخطئ رغم إدراكك كل الصواب.. وقد تصيب أيضاً فيما كنت تخطئ فيه فيما سبق ومن تكرار الأخطاء وتنوعها، تبدأ فى اكتساب مهارات جديدة على صعيد مختلف.. ومن احتمالية السقوط في براثن الفشل وهاويته السحيقة، يتولد لديك مفهوم جديد ومتطور للإصرارعلي النجاح.. ومن شبح الخوف وربما الفزع والرهبة من الغد، تستيقظ بداخلك تلك القوة الخفية والرغبة الدفينة في الحفاظ علي تفاصيل اليوم الذي قد يمضي ويخلف خلفه حسرات.. أو ضحكات.. ودوماً مزيجاً متداخلاً من الصور.. صورة للنجاح وأخري للفشل.. صورة لأهداف تتحقق وتنمو وأخري تموت وتتساقط.. وحقائق تتبدل في عالم لا ثابت فيه سوي هدف علينا تحقيقه والوصول إليه.. فالأصل فيه أنه دوماً أبداً إلي زوال.. ونهاية حتمية لكل البدايات وأوائل الحروف ورءوس الموضوعات وريشة جديدة لتلك الصورة الملونة التي لا تدرك حقيقة ثبات ألوانها ودقتها إلا فور الانتهاء منها وربما إعادة تكوينها من جديد.

وتمر بنا السنوات طويلة وقصيرة.. سعيدة ومرة.. باسمة وعابسة.. ونفرح ونحزن وأبداً لا نعتبر.. ويمضي بنا قطار العمر السريع ولا نرى دقات ساعاته ولا يلفت انتباهنا توالى محطاته المتتابعة ولا ندرك سرعته ولا يستوقفنا ركابه صعوداً وهبوطاً. ذهاباً وإياباً.. ولا نعبأ بأضوائه التي دوماً تخبو لتعلو أبداً من جديد.. تتعدد الوسائل وتتنوع.. تتشابك الصور وتتداخل.. تتكرر الصور وتتوالي فى تتابع سريع وتغير مستمر ووتيرة غير محددة.. وتبقي دوماً نقطة بداية لكل نهاية.. وحرف انطلاقة لكتابة كل سطر جديد وفصل يبدو مع بدايته أكثر إشراقاً.. والأصل فيه الأمل الذى يبعثه مع بداية انطلاقه.. وتبقى العظة نبراساً وطاقة نور  تختلط فى رؤيتها العين المجردة.. البعض يراها وميض نور وطاقة أمل والبعض الآخر يرى فيها دائرة ملتهبة من النيران المتصاعدة.. البعض يفرح بها والبعض يتحسر علي زوال عمره وكان بالإمكان تدارك الخطأ وتفاديه.. بقليل من التركيز والتدقيق والربط ما بين الماضي بمعطياته والحاضر بفصوله الجديدة التى هي فى الأساس صورة للأمس ونسخة مكررة منه.. ويبقى الأصل دوماً أن نتعظ من خطأ الأمس.. ونأخذ العبرة من فصل مضي.. الأصل في الإدراك السليم.. أخطاء لا تتكرر.. ودروس لا تتشابه.. فليس من العيب أن نخطئ، لكن العيب كل العيب أن تأتي العبرة ولا نتعظ.. ويأتي الدرس ولا نستفيد.

وتأتي النهاية ولا نبدأ -دوماً- من جديد.

إقرأ أيضاً