من بين محافظات الصعيد خرجت محافظة أسيوط ليكون لها دورا قويا في القضاء على أحلام الأتراك وأطماعهم في مصر، فكان لأسيوط ابن وصف بصاحب الزعامة الشعبية وعمل من أجل القضاء على أحلام الأتراك والعثمانيين في الاستمرار بحكم مصر تلك هو السيد عمر مكرم حسين السيوطي.
وُلد عمر مكرم الهلالي ابن العائلة الهلالية العريقة في محافظة أسيوط «1164هـ - 1755م» وهي عائلة كانت تهتم بالعلم والدين والدراسة في الأزهر الشريف، إنتقل إلى القاهرة للدراسة في الأزهر وتميز بالعلم، وانتهى من دراسته وأصبح نقيبا لأشراف مصر وكان يتمتع بمكانة عالية عند العامة والخاصة.
أوقف ظلم المماليك
تولى عمر مكرم مطلبا برفع الضرائب عن كاهل الفقراء وإقامة العدل في الرعية لمحاربة ظلم المماليك إبراهيم بك ومراد بك في عام 1795م، وتميزت حياته بالجهاد المستمر ضد الاحتلال الأجنبي، والنضال ضد إستبداد الولاة وظلمهم، وكان ينطلق في هذا وذاك من وعي إسلامي عميق.
رحلة كفاح ضد العثمانيين
وقف عمر مكرم أمام الأحلام التركية العثمانية بعد أن قرر ولاتهم الحاكمين التغذي على عرق الشعب المصري بجباية الضرائب، فهب العالم المجاهد للنضال الشعبي ضد مظالم الأمراء الأتراك الذين ولتهم الدولة العثمانية ممثلون في خورشيد باشا الوالي العثماني حتى عزله عام 1804م، بعد أن كان يجمع أموال المصريين لإرسالها إلى خزينة الدولة التركية في الباب العالي في اسطنبول، اجتمع العلماء بالأزهـر وأضربوا عن إلقاء الدروس وأقفلت دكاكين المدينة وأسواقها، واحتشدت الجماهير في الشوارع والميادين يضجون لحين عزل الوالي التركي وسحبه خارج مصر وتولي من هو أصلح منه وخلع العباءة التركية العثمانية من على مصر واختيار المصريين حاكمهم بأنفسهم.
وبدأت المفاوضات مع الوالي للرجوع عن تصرفاته الظالمة فيما يخص الضرائب ومعاملة الأهالي، ولكن هذه المفاوضات فشلت، فطالبت الجماهير بخلع الوالي، وقام عمر مكرم وعدد من زعماء الشعب برفع الأمر إلى المحكمة الكبرى وسلم الزعماء صورة من مظالمهم إلى المحكمة وهي إلا تفرض ضريبة على المدينة إلا إذا أقرها العلماء والأعيان، وأن يجلو الجند عن القاهرة وألا يسمح بدخول أي جندي إلى المدينة حامـلا سلاحه.
وفي يوم 13 مايو قرر الزعماء في دار الحكمة عزل خورشيد باشا وتعيين محمد علي، فارضين ذلك على الصدر الأعظم في الدولة العثمانية الأستانة، واستبدلوا خورشيد باشا بمحمد علي بعد أن أخذوا عليه شرطًا "بأن يسير بالعدل ويقيم الأحكام والشرائع، ويقلع عن المظالم وإلا يفعل أمرًا إلا بمشورة العلماء وأنه متي خالف الشروط عزلوه" .
حربه ضد الأحتلال الأجنبي
وقف العالم عمرو مكرم ضد الأحتلال الأجنبي عندما أقترب الفرنسيون من القاهرة خلال حملتهم على مصر عام 1798 بتعبئة الجماهير للمشاركة في القتال إلى جانب الجيش النظامي، ولكن سقطت القاهرة بأيدي الفرنسيين، وعرض عليه الفرنسيون عضوية الديوان الأول إلا أنه رفض ذلك، بل فضل الهروب من مصر كلها حتى لا يظل تحت رحمتهم.
ثم عاد عمر مكرم إلى القاهرة وتظاهر بالاعتزال في بيته ولكنه كان يخطط مع عدد من علماء الأزهر وزعماء الشعب للحرب ضد الاحتلال الفرنسي التي اندلعت في عام 1800م فيما يعرف بـ"ثورة القاهرة الثانية"، فلما فشلت اضطر إلى الهروب مرة أخري خارج مصر حتى لا يقع في قبضة الفرنسيين الذين عرفوا أنه أحد زعماء النضال ضدهم وقاموا بمصادرة أملاكه بعد أن أفلت هو من أيديهم، وظل خارج مصر حتى رحيلهم.
ولكن عاد مرة أخري وقاد مكرم المقاومة الشعبية ضد حملة فريزر الإنجليزية 1807م، تلك المقاومة التي نجحت في هزيمة فريزر في الحماد ورشيد، مما إضطر فريزر إلى الجلاء عن مصر.
كان عمر مكرم هو زعيم هذه الحركة الشعبية ومحركها، وكان للشعب زعماء يجتمعون ويتشاورون ويشتركون في تدبير الأمور، ولكل منهم نصيبه ومنزلته، ولكن من الإنصاف أن يعرف لعمر مكرم فضله في هذه الحركة فقد كان بلا جدال روحها وعمادهـا.
محمد علي ومكيدته ونفيه للشيخ
تولى محمد علي حكم مصر بتأييد الزعامة الشعبية التي قادها عمر مكرم كانت زعامته تترسخ في وجدان المصريين، إذ رفض مساندة المماليك في حشد الشعب ضد محمد علي، ورفض فرمانات السلطان العثماني بنقل الباشا إلى سالونيك فاحتمى محمد علي بالزعيم من سطوة العثمانيين، وفي حملة فريزر قام عمر مكرم بتحصين القاهرة، واستنفر الناس للجهاد، وكانت الكتب والرسائل تصدر منه وتأتي إليه، أما محمد علي فكان في الصعيد ينتظر حتى تسفر الأحداث عن مسارها الحقيقي.
أدرك محمد علي أن عمر مكرم خطر عليه أمام أحلامه في الانفراد بحكم مصر؛ فمن استطاع أن يرفعه إلى مصافّ الحكام يستطيع أن يقصيه، ومن ثم أدرك أنه لكي يستطيع تثبيت دعائم ملكه وتجميع خيوط القوة في يده لابد التخلص من عمر مكرم ودبر له مكيدة .
وعندما أعلن زعماء الشعب عن إستعدادهم للخروج لقتال الإنجليز أجاب محمد علي"ليس على رعية البلد خروج، وإنما عليهم المساعدة بالمال لعلائف العسكر".
كانت العبارة صدمة كبيرة لعمر مكرم؛ إذ حصر دور الزعامة الشعبية في توفير علائف الحيوانات، ولكن حصافة الرجل لم تجعله يعلن خصومة محمد علي، وأرجع مقولة الباشا إلى أنها زلة لسان، وآثر المصلحة العامة لمواجهة العدوان؛ فقام بجمع المال؛ وهو ما وضعه في موقف حرج مع بعض طوائف الشعب، وبعدها عمد محمد علي باشا إلى الوقيعة بينه وبين العلماء وبعد ذلك تصعد الخلاف ونفاه إلى دمياط وانهي دوره للقضاء على الزعامة الشعبية.