إسمٌ يتردد على ألسنةِ الكُتَّابِ والمثقفين فلا يوجد مُثَقَّفٌ إلا وزاره مهماً كانت مقدرته المالية، هذا السور العريق بمنزلته الخاصَّةً بمصر وخارجها كان المصدرَ الأوّلَ للكُتّاب والمفكرين فهو بمثابة المعرض الدائم للكتاب بقلب القاهرة ولا ينافسه سوي ضفافُ نهر السين بالعاصمة الفرنسية.
إنه سور الأزبكية الذي برز لأكثر من مائة عاماً كعلامة ثقافية وتمتع بأهميةَ خاصة لدى مثقفي مصر والعالم العربي والأجانب حتي أن الأديب سليمان فياض في برنامجه الإذاعي أطلق عليه «جامعة الفقراء» حيث الكتب بأسعار زهيدة كما كان الرئيس جمال عبد الناصر يتردد عليه وكذلك الرئيس أنور السادات وكان من رواده قبل وبعد أن أصبح رئيساً. وبمرور الزمن، أمسي السور المنبر الذي يُشكيل خلفية المصريين الثقافية لما تحويه مكتباته التي يبلغ عددها 133 مكتبة بأمهات الكتب كما يزخر بباعة المجلات والصحف القديمة التي تُؤرخ لتاريخ مصر.
يعود عُمر منطقة الأزبكية لأكثرَ من سبعةِ قرون وقد سُميت بإسم الأمير عز الدين يزبك، قائد جيش السلطان قايتباي الذي جمل الأزبكية وجعلها حديقة للقاهرة بها بركة الأزبكية واستمرت كذلك حتى ردمها الخديوي إسماعيل وأقام على جزء منها دار الأوبرا للإحتفال بملوك أوروبا القادمين لحضور حفل إفتتاح قناة السويس وكانت بركة قديمة بمساحة 60 فدانًا وكلف الخديوي إسماعيل المهندس الفرنسي ديشان مسئول بساتين باريس بإنشاء حديقة بمساحة 20 فداناً وزُوِّدَتْ بنحو 2500 مصباح غاز. ظلت حديقة الأزبكية علي عهدها بسورها الحديدي الأسود حتي هدم مع ثورة يوليو 1952 وتحولت لمنتزه عام وأقيم سور حجري مكان السور الحديدي الذي تحول لمكتبات ثقافية وتدريجياً تحول المكان لمعرض دائم للكتب القديمة. قبل إنشاء السور، كان باعة الكتب يطوفون بالكتب حتى بدأوا في إفتراش الأرض بالكتب بميدان العتبة وبمحاذاة حديقة الأزبكية.
كانت البداية عام 1907 بشاب صعيدي أوي لظلال أشجار حديقة الأزبكية بقلب ميدان العتبة ليأخذ تعسيلة وكان يحلم بقرشين ليعود لبلدته ووجد ضالته في بواقي مكتبات الفجالة ليبدأ رحلة بيع الكتب للراغبين بقرش صاغ. وفي يوم، نام تحت ظلال الزيزفون وتناثرت الكتب حوله فلفتت إنتباه المارة فإشتروها لتشجيعه علي البقاء بعنوان ثابت بقلب القاهرة. وبمرور الوقت، أضاف للفرشة مجلات أجنبية وإستقرت تجارته مابين الحركة والإستقرار بالسور ملاصقاً لدار الأوبرا الخديوية التي يرتادها الأكابر والأفندية وكلهم متعلمون فأقبلوا علي تجارته التي راجت بشدة. أغري نجاحه الكثيرين فإستقروا متجاورين وتحول الأمر لسوق كامل مُكونين أول سور ثقافي بالمنطقة العربية كما قرروا عدم التنافس وإختاروا تخصصات تحقق التنوع للزبون بدون منافسة بين البائعين فظهر المتخصصون بالمجلات والكتب العربية والأجنبية والمسرح وهكذا.
لكن تعاملت بلدية القاهرة مع الباعة علي أنهم «سريحة» يزحمون المكان قرب الأوبرا الخديوية التي يرتادها الأمراء والأميرات والخديوي فطاردوهم وإستخدموا خراطيم المطافي لطردهم البائعين الذين هربوا ببضاعتهم الورقية خوفاً من البلل حتي كان عام 1949 وكانت تجارتهم قد استقرت وأصبح لها رأس مال وزبائن فتوجهوا وكان عددهم ٣١ بائعاً لمجلس الوزراء وإلتقوا رئيس الوزراء آنذاك مصطفي النحاس الذي تعاطف معهم وأصدر أمره لفؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية ليُصدر لهم تراخيص ثابتة لمزاولة المهنة ومنع تعرض بلدية القاهرة لهم ليكون بذلك رسمياً أول سور للكتب في الأزبكية وأحد أهم المعالم الأثرية والفنية بالعاصمة.
وبعد قيام ثورة يوليو، فكر مسئولي البلدية في التخلص من السور لإعادة تجميل حديقة الأزبكية فلجأ البائعين للدكتور عبدالقادر حاتم، مدير مكتب الرئيس عبد الناصر وشرحوا موقفهم فنقله للرئيس الذي أمر بتنفيذ أكشاك خشبية للبائعين لتنظيم كتبهم وإصدار تصاريح رسمية بشرط عدم تغيير النشاط. وكان للسور نصيب الأسد في نهضة الستينات الثقافية ومطابع تُصدر كتاباً كل ست ساعات وتزايد الإقبال علي التعليم فكانت حركة أدبية زاهرة وإعلاء قيمة الثقافة فتضاعف عدد التجار.
لكن الرياح لاتأتي دوماً بما تشتهي السفن ففي عام 1983، هدم السور ونقل لسور السيدة زينب بسبب وضع أساسات كوبري الأزهر واستمر الوضع خمس سنوات حتي صدر حكم محكمة القاهرة، لصالح التجار ضد محافظ القاهرة للعودة للسور ولكن للخلف قليلاً فقد اقتطع الكوبري جزء من أماكنهم وتكرر الأمر عام 1993 لمدة أربع سنوات عندما بدأ إنشاء محطة مترو أنفاق الأوبرا ونقل التجار للحسين بجوار لكنهم عادوا عام 1998 وبدأوا في التحرك بالكتب علي أرصفة القاهرة خاصة في تجمعات حركة المرور بالإسعاف ورمسيس وشوارع وسط البلد فأصبح هناك سوق وسور أزبكية مصغر هنا وهناك وجد كثيرون فيه ضالتهم بل واستقروا بعد ذلك رغم عودة السور إلي موقعه القديم.