نعتقد فيها وننكرها، نؤمن بها ونحاربها، نراها فنفر منها، نعبث بها فتسخر منا، نحاربها فتطاردنا، نعدو بعيداً لتحطينا شباكها ونقع أسرى الحبكة الدرامية المحيطة والشباك المتداخلة، تلك المصيدة الشفافة البراقة الشديدة الإحكام وميضها نار تدمي القلوب وسحرها سم أسود في قطرات العسل المر ونحسبه حلو المذاق، يكوينا اللهيب فنحترق، تتصاعد أدخنة الضباب وتتعالي صيحات الإستغاثة من وطأة عذاب لا ينتهي وأمل لا يتحقق ونهاية لا تأتي.

ومع تصاعد النيران، نبكي فرحاً وألماً وسعادة ونضحك، تلك الضحكات الهيستيرية ونبكي وتنسال العبرات فالقلب يدميه الصراخ والعقل يشله الغد المجهول والروح الباردة يغشاها الصقيع. ومن جوف الآهات، تتعالي الضحكات الجوفاء.. بسمة القلب اللاهي ووميض العين الدامعة. تسعدنا، تضايقنا، تهرب منا الخيوط لنسقط دوماً في تلك الهاوية، فالأصل فيها المستحيل وغد غامض مهزوز الملامح، سماء لا يبدو سحابها خلف الغيوم. إنها الوهم الجميل والعذاب العذب والأمل المفقود، إنها تلك العلاقات الأبدية.. اللانهائية.. العالقة في عمر الزمن لا تهدأ ولا تكل ولا تمل ولا تهدأ علي مرسي ولا تصل لنهاية، إنها البداية والنهاية في حلقة أبداً مفرغة، إنها المرادفات والمتناقضات والعلاقات المستحيلة.

تقابلا علي غير موعد وافترقا علي وعد بلقاء قريب، وجاء اللقاء ليتوالى ذلك التواصل المحبب وشرارة دفق من مشاعر تلوح فى الأفق القريب. كثير من لحظات السعادة الخاطفة وحلم تائه بين طيات واقع أليم يجمعهما معاً، غريب وغريبة علي أرض وعرة تبدو رحبة ومن يدرى، قادم هو من بلاد بعيدة ليحط الرحال علي وطنها تاركاً خلفه زوجة استحالت  معها الحياة وأطفالاً غاب عنها الأب وظلت روحه ذكرى تعم أرجاء المكان وهى المطلقة الجميلة قست عليها سنوات عمرها القصيرة بتجارب مرة فاقت طاقتها علي الاحتمال. تلاقيا رغم البعد، حضارات تفصل بينهما، تاريخ يحمله كل منهما ووطأة ماض قاس فى بلاد بعيدة.

أميال تباعد القلوب المتآلفة وحلم لقاء يتجدد مع شمس كل نهار. ولما حانت الساعة وجاءت النقطة الفاصلة ولحظة القرار، غشاهما الصقيع. القرار، كلمة تغير الواقع وتصنع من المحال مجرد واقع. احتار ليختار وشاركته الحيرة، وقف العالم بأسره في مجابهة المحبين لينتصر الحب وتنير شرارة القلوب سماء تلبدت بغيوم سوداء من خوف وقسوة وريبة وكثير من القلق، مستقبل غامض ساعاته، مشوشة دقاته، طويلة قاسية على أفئدة المحبين لتبدأ الحياة ويمسى الغد واقعاً يحياه المحبون ليتقاسموا فصوله وصوره وألوانه، وسقطت الأقنعة لتبدو الحقيقة عارية والصورة مجردة، اختلافات عديدة يحاولون التغلب عليها وتفاصيل صغيرة تباعد بينهم يوماً بعد يوم لتأتى مجدداً لحظة القرار والقرار اليوم انفصال. ومع شبح الفراق على الأبواب، بكى المحبون.. ذرفوا الدمع على سنوات من العمر تاهت مع غيرها وأحلام تهاوت بأصحابها فلا عاشوا الواقع ولا حققوا الحلم المستحيل.

تلك القصة المكررة مللنا صورها المتشابهة وخاتمتها التقليدية، من منا لم يعش فصولها؟ من منا لم يعاصرها حية في كتاب حياته والأصدقاء من حوله؟ نحب من لا يعبأ بنا ونفر ممن يهبنا الحياة ولا إجابة لتلك المتناقضات ولا وسيلة لفك شفرة تلك الأبجدية المتلعثمة علي شفاه تنطق فقط بما تهوى وتعشق ما لا تبوح به. ولأننا بشر، لا نتعلم ولأن كلاً منا مجرد «إنسان»، لا نأخذ العبرة لنعتبر ولا نعى الدرس لنعيد الكرة الواحدة تلو الأخرى ليمضى قطار العمر سريعاً. وفقط عند النهاية، ندرك أو لا ندرك كم كانت الحياة وعرة وقاسية وصنعناها بأيدينا.

كم ضاعت الأيام في رحلة البحث عن ذلك المستحيل!! أمامك كل النساء وتشغلك المرأة المستحيلة كأن تكون أعزباً وتعشق المتزوجة، وهم في خيالك تنسجه وتنغمس فيه فترى الصورة أصلاً وتمزج الواقع بالخيال فلا تعيش اللحظة ولا تحقق الحلم المستحيل، تعشق الصعب المنال وتنسى القريب منك، تتزوج فتبحث عن الحب بعيداً وهو بين يديك وتقطعين الليالي بحثاً عن ذلك الفارس الهمام على الجواد الأبيض وتنسين كل الرجال، تختلفان ديناً ووطناً وواقعاً ويقبل كل منكما على الآخر فتضيع الساعات في وهم محال ترونه واقعاً سهل المنال وقد يصبح حقيقة وقد يظل وهماً أبد الدهر وتضيع معه سنوات الدهر. ولأننا بشر ولأنها الحياة، نضيق بالصبر وقلة الحيلة تصنع من المثابرة ورغبة الوصول للهدف عبئاً قاتلاً ومن المشاعر قيداً أليماً ونهرب منها بعد أن كانت يوماً لنا أقصي المنى وكل الحياة.

صور تلك العلاقات عديدة ولوحاتها متناثرة علي كل الجدران، تراها فى تلك الأواصر التى يربطها الدم ولا سبيل للفرار، تراها فى تلك الصور التى تنسج خيوطها أيدينا الصغيرة وتخط ملامحها رغبتنا الدائمة في السعي وراء المحال كأن تحب أمك وقد تركتك صغيراً، تكره بعدها عنك ولا تجد فى الكراهية راحة ولا تجد للصورة السوداء سبيلاً فرابطة الدم أقوى وأعمق. قد لا تراها أبد الدهر، لكن رباطاً أقوى يحل من النفس رغبة الإنفصال، تعيش سجين جدران النفس وأب رحل عن الدنيا وذكريات حياة لم تعشها علي عينها ولم تهدأ بزوالها وخاتمة لبداية لم تتحقق وقصة أبداً لم تتم.  

حب الدراسة وأستاذ اللغة العربية، عشق عن بعد لغريب وضعته الصدفة في رحلة عابرة لتنسج من تفاصيل قصة واهية أسطورة لا تموت، يهفو قلبك لذلك الوسيم المتزوج فتنسجين رغبتك الدفينة فى الشعور الكاذب بتعاسته ووميض الحزن الخادع فى عينيه وقصة عشق تأخذك بعيداً عن أرض الواقع.. صورة أخرى وثالثة حين تحب من تخالفك جيلاً وتنسى أن أجيالاً متعاقبة ستدفع الثمن الغالى لتلك العلاقة المستحيلة فالحب حالة والحياة لا تصنعها حالة مهما بلغت قوتها وشدتها والحلم الكامن خلفها ويملؤك العند والكبرياء وزيف الكرامة وولع الفراق شبح أسود تفر منه وتتناسي دوماً كونه حقيقة واقعة وتسير علي الدرب يملؤك الكبر وكثير من التحدي ورغبة دفينة في التمسك بما تحسبه كل الحياة، تمضى في سبيلك غير عابىء تحطم القيود الواحد تلو الآخر لترى الصورة بنهاية الرحلة وتتساءل عن نقطة البداية البعيدة التي صنعت الخاتمة، تضحك أو تبكى لا يهم فالأصل ثمناً باهظاً دفعته من أيامك وسنوات عمرك الضائع وأجيال تتوالي من بعدك.

وللحق، الصورة ليست بهذا السوء وهذا السواد والأمر ليس دوماً فشلاً ينتظر أصحابه على قارعة الطريق فكم من غرباء تلاقوا وصور التحمت ومشاهد متناثرة انصهرت في سيناريو محكم لدراما مزجت بإحكام ما بين الواقع وجموح الخيال وكم من جزر منفصلة تلاحمت على أرض قارة جمعت بينها وحدائق غناء افترشت أرض البادية الموحشة فالأصل في الحياة أقدار تقارب وتباعد، قانون طبيعة صارم لا يحيد، قدر لا يلين وحكمه نافذ لا محال ولا جدال ولا فرار، قد تنجح القصة وقد تفشل.. وقد تشاء الأقدار وقد تأبي وقد تنجح المساعي الدامية في تأليف القلوب الشاردة وقد تكتب عليها أبداً اللوعة وألم الفراق.. وقد.. وقد.. وقد.. علامات استفهام بلا إجابة، نهاية قد ترضينا أو تشقينا ويظل السؤال الشارد، أهو القدر بأحكامه الغائرة أم لدينا الخيار وبإمكاننا الإختيار، وتبقي الإجابة لا ترضينا ولا تشفينا ولا تداوي جرح القلب المكلوم وآهات النفس الشقية، إنه ليس حكم القدر لكنها اختيارات لا تفرض علينا بقدر ما تسوقنا نفوسنا وعقولنا وقلوبنا إليها.

يقدر لك الخيار فتختار الصعب المنال والحلم المستحيل وقد يتحقق فالقدر قد يشاء والإرادة قد تأتى بما تشتهى السفن، يسير المبدع عكس التيار فينجو بريشة وقلم ولحن يصنع له الخلود، قانون العامة ليس معياراً ثابتاً لتسير عليه لكنه الأضمن والأوقع والأبسط والأسهل أو قل أهون المتاح. أما المحال فصعب المنال.. يحتاج لجلد وصبر وعناء، لكثير من المثابرة وكفاح لا ينقطع ونفس يطول بطول العمر ونتيجة غير حتمية وتقبل كامل لكل المعطيات والنتائج. ومتى أصاب الهدف، يصبح الصعب أوج السعادة والهناء فما نيل المطالب بالتمنى وكما أنه ليس كل هين تزهده النفس وتعزف عنه، لا تنس أبد الدهر الأمل الصعب المنال ولا تفرط -أيما كان- فى الحلم المستحيل سواء ظل حلماً أم أمسى واقع حياة.. وعندها يصبح بحق.. كل الحياة!

إقرأ أيضاً