نقاط متفرقة، متناثرة، متباعدة، تشكل -بتقاربها وتشابكها- اللوحة مكتملة والفقرات كاملة، أجزاء متفرقة تتشابك وشتات متناثر يتقارب ليصنع لوحة، قصيدة، قصة، سيمفونية عذبة، آهة مكتومة وفي المجمل حياة. أحداث متباعدة تتقارب، مواقف تتلاحم، قصاصات تتناثر في الهواء، نفحات تحمل خبراً، نسمات تعبر الروح ودقات تنبئ القلب بما يريد أو لا يريد، وماذا يهم.
نقول عنها صدفة، نصيب ومكتوب والأصل فيها قدر والحدوتة مكتملة تشكل لنا جميعاً كل الأقدار، قدر يسعدنا وآخر يشقينا، يفرحنا اليوم ليبكينا غداً، يسر القلوب الحائرة لتتوه أبداً من جديد، قدر يعبث بمصائرنا، يتلاعب بأحداث حياة هي منه وإليه، ما تري حلكته اليوم يزداد بياضه مع الأيام وما تري فيه النور تشتد ظلمته رغم البريق وما تري فيه الحياة يأتي لك بالفناء وما تأمل في زواله يمسى لك كل الحياة. مجموعة صدف متناثرة، علامات علي الطريق، إشارات غامضة لا ندركها في حينها، قصاصة ورق صغيرة تغير مجري الحياة، غريب علي الطريق، إعلان بمجلة قلما تطالعها، لحن خافت يحمل وميضاً بإتجاه معاكس، خط سير يتغير فجأة، صدفة تجعل من الغريب قريباً ومن الحلم وهماً ومن الأيام مجرد حياة!! خبر في جريدة أسبوعية لا تقرأها دوماً، إعلان في مذياع قلما تستمع إليه، صديق قديم طال غيابه أو قريب علي سفر، حالة ترقب لصدفة تغير حياتك، تشقيك أو تسعدك، تشد من أزرك أو تهدمك، لا يهم فالأصل فيها صدفة، حدث عابر، علامة مجهولة تفتح لك طاقة نور وتشع بريقاً متي خبت عنك أضواء الحياة.
ولأن القلب من التقلب نتقلب، ولأن الإنسان من النسيان ننسي وتأتي الصدفة، إشارة غامضة تذكرنا بقدر ننسي دوماً أنه وراء الأشياء، قدر يرسم الأيام ولا نراها، يشكل الحياة وننسي دوماً أن نحياها، نعيش اليوم في انتظار الغد، ويأتي الغد كما سيأتي كل غد فيمسى الحاضر ماضياً وأحداث اليوم مجرد ذكريات!! قانون طبيعة صارم يحكمنا ولا فرار، أقدار مقدرة ولا نعتبر، الأصل مكتوب ونقول صدفة، مجموعة صدف، صدفة جمعت أبي بأمي فجئت أنا وصدفة ستجمعني بك فتأتي أجيال من بعدنا والأصل في القدر أن نستمتع به حتي يتبدل، نلهو به حتي يشاء ودوماً يشاء ولا نقبل ويحكم ولا نرضخ وأبداً يعيش ونحن إلي زوال!! وفقط عند اكتمال الصورة، نري الوجود جميلاً ولم ندركه في حينه والشمس ساطعة ولم نلحظ بريقها في انتظار وميض القمر والربيع كم كان صحواً وكنا ننتظر الخريف وشتاء المدينة القارص في انتظار نسمات الربيع وانطلاقة الصيف ومرحه، عجلة تدور بنا ولا ندركها وأيام تعدو بنا ولا نلحظها فلا رأينا جمال الصقيع ولا أدركنا نفحات الربيع ولا استوعبنا سر الحياة!!
سؤال حائر، يتقابل الغرباء بحثاً عن إجابة، علامات تعجب، ترقب، استفهام. كثير من الترقب وسؤال حائر بين كل المتناقضات، لماذا إلتقينا؟ وكيف جمعنا القدر؟ ماذا يخبئ لنا الغد؟ هل للماضي من عودة؟ هل ستكتمل الصورة؟ هل ستتم القصة؟ كيف المصير ولأين المسار؟ لكأننا علي موعد، كنا أبداً علي موعد، كنت دوماً في انتظارك وأنت الباحث عني بين الطرقات، وإلتقينا، صدفة جمعتنا، لملمت شتات القلوب وعلي درب الحياة، إلتقينا ومع تشابك الأيدي سرنا معاً، رحلة يوم امتدت بطول العمر ليتها لا تنقطع، تشبهني وأطابقك، توافقني وما لي من بديل عنك، نتوافق كتوأم روح، نتشابه كشقي قلب انشطر ليلتحم دوماً من جديد، أباق معي أم إلي زوال؟ أقصة عابرة أم قدر محتوم؟ أأنت مني أم للمجهول تسير؟ ولا يكل السؤال ولا يمل وأبداً لا تأتى الإجابة. وفقط عند النهاية، ندرك كم ضاعت اللحظة ولم نعشها، كم كان الحاضر حلواً ولم نلحظه، كم كان الماضي بعيداً وضعنا بين طياته وكم كان الغد قاسياً وأضعنا العمر في انتظاره. ويأتي الغد كما سيأتي كل غد، وأذكرك، أتذكرك وسنوات عمري معك وساعاتي الطويلة بدونك ووخز في القلب الحائر ودمعة تتحجر بين مقلتي العين الدامعة وترقب يقتل فرحة اليوم وذكري الأمس وأمل الغد ودقات ساعة لا تتوقف وعمر سيمضي بك أو بدونك!!
مسافر علي الطريق، رحلة عمر ومشوار حياة، حالة ترقب دائمة تأخذنا من أنفسنا، تخرجنا من جلودنا، تجردنا من مشاعرنا وأحلام سنوات العمر الضائعة، انتظار القدر، صدفة تغير الأقدار، حدث عابر يبدل واقع نرفضه وغد نطمح إليه، قلق وريبة وتوجس،. حالة نسيان، ألم، هذيان في انتظار مجهول قد يأتي صدفة وأبداً لا يأتى!! رحلة نقطعها، مسير أو مخير، لا يهم فالأصل فيها متعة لحظة لا نحياها إذ لم نرها أبداً من قبل. إلهي كم أكره الانتظار، انتظار الموت أو انتظار الحياة!! ولأن قطار العمر ماض لا محال، قضبانه الحديدية تقتلك أو تحييك، تحمل لك سعادة وكل الشقاء حسبما تريد وأبداً يريد القدر ولا تريد، تعيش أحكامه ولا ترضي ولا تقنع ولاتيأس وتعيش. ولأن العمر حتماً لنهاية والسطر تختمه نقطة فاصلة، سنوات الصبا إلي زوال وبوادر النهاية شعيرات بيضاء تغزو الهالة السواء، أيام تنطوي، أحلام تمسي واقعاً نحياه أو لا نحياه وغداً يصبح ماضياً لا محال، أحلام تمسي ذكري ودقات ساعة لا تتوقف. أين أبي اليوم وسنوات عمري معه؟ وأين أنا غداً من حاضر يضحي أمساً بعيداً؟ أين ذكريات الطفولة، رفاق الدراسة، سنوات المرح، حديقة مدرستي الصغيرة، فناء كرة السلة وبيانو حجرة الموسيقي العتيق وألحان تنساب تنساب معها سنوات العمر، أين لمة صديقات الصبا والجامعة وقصص الحب تتناقلها أفواه باسمة وقلوب تتفتح، تراهم بعد العمر، ذكري أو حقيقة، تبتسم، تتذكر، ينساب الشريط أمام عينيك، ترى الأمس البعيد لكأنه عشية يوم أمسي ليلاً تحياه، تضحك أو تبكي، لا يهم فأبداً هي ذكري لا تعود وسنوات مضت بلا رجعة، تمسي كهلاً بعد شباب ملأ عروقك، يمضي الحبيب بعد انقضاء الرحلة ويرحل القطار علي قضبانه فلا يكل ولا يمل ولا يحيد!! مكتوب منذ بداية الخلق ورحلة ستمضي حتماً وفقط عند النهاية ندرك مغزاها وسرها المكتوم.
ولأن القطار يسير بلا توقف، فلتنطوى الرحلة بما نهوي فستنطوي في كل الأحوال، عِشْ اليوم قبل أن يأتي الغد كما سيأتي كل غد، استمتع بدقات الساعة حتي تصمت ورنين الهاتف قبل أن تفل الحروف وتصمت كل الكلمات، إسعد بيومك قبل أن يشقي بك وإجعل من حزنك مرحاً ومن يأسك صبراً ومن أيامك أصل السعادة وسر الوجود فسيضيء الدرب حتماً، متي؟ لا ندري، ومن يدري؟ فهو القدر ومن يدرى ما القدر. وعندما تأتي الصدفة من جديد، إضحك أو إبكي، إلهوّ أو إشقى فهو قرارك وتقدر الأيام وهو مصيرك وحتماً إلي نفاذ. ولتمضي قصتي معك ولنعش دقاتها وأحداثها وثوانيها فما بالنا وغد سيأتي بما نحب أو لا نحب وما بالنا بأحكام أقدار لن ندرك كنهها إلا في حينه وما بالنا بالعمر القادم. فلنعش لحظة جمعتنا، صدفة لملت شتات قلوبنا الحائرة في رحلة يبحث فيها كلانا عن الآخر.. أيام سنمضيها معاً وكثير من تفاؤل وأمل، كثير من الأمل. اليوم سيكون بداية لسنوات طويلة ستمتد، سأحبك فيها أكثر مما أحب فما أعيانا اليوم الماضي والحاضر بصوره والمستقبل بمجهوله، يا أهلاً بصدفة عمر جمعتنا كما ستجمعنا كل الصدف، لنعش اليوم قبل أن يمضي ومن يدري ما الغد وما بعده سيأتي حتماً فالقدر مكتوب لا يتغير ويقين بداخل النفس أبداً لا يموت، وكما جمعتنا صدفة، ستجمعنا حتماً كل الصدف.