لعل أخطر ما داهمني عندما حاولت الإقتراب من سيرة القائد المملوكي محمد بك أبو الدهب، هو الحيرة الشديدة، فعلي الرغم من عمره القصير "واحد أربعون عامًا" إلا أن تاريخه وحركته حافلة على مسرح الأحداث في مصر والشام والحجاز .

ولكن الذهول والحيرة الأكبر تصيبك عندما تلتقي بمسجده المميز الذي يستقبلك فور الخروج من نفق الأزهر، في أحد البقاع الطاهرة بأرض مصر وهو حي الحسين، يقف في بهاء وكأنه يبكي حاله، لا تسمع به آذان ولا يسجد به مصلي، ولا يتجول في أركانه سائح باحثًا عن سحر التاريخ، هذا المسجد المميز بطرازه وقبته، هو مسجد" محمد أبو الدهب" والقريب في تصميمه من الطراز العثماني، في الطبيعي المساجد تبني لوجه الله وليس لمقاصد أخري، ومسجد أبو الدهب مغلق للأسف منذ أكثر من نصف قرن ولم تُقم به أي صلاة خلال تلك المدة، والمدفون بداخله صاحبه.

ويبدو أن نية صاحبه لم تكن سليمة عند بنائه لمسجده، فقد كان يريد ببنائه في هذا المكان بالذات أن يسحب البساط من تحت أقدام شيوخ الأزهر عندما أظهروا له عدم الرضا عما فعله مع أستاذه "علي بك الكبير"، عن تمثيله بالقتلى فى أرض الشام، عندما خاض حروبا فيها، ليصبح مسجده بعد ذلك على غير نية صاحبه .

حلم الإستقلال
في البداية كانت حملات على بك الكبير التوسعية تجعله يرسل حملة بقيادة مملوكه المفضل محمد أبو الدهب إلى الحجاز، وشجعه إنتصاره في الحجاز على إرسال حملة إلى بلاد الشام، الذي وعد بنجدة حليفه الشيخ ظاهر العمر.

وكان محمد بك أبو الدهب حليف علي بك الكبير،و سمي أبو الذهب لأنه كان يوزع الذهب على الناس في رحلة الحج بكرم زائد، في تلك الفترة كان علي بك الكبير قد إعتلى عرش مصر تحت مسمي والي، مستغلا فترة الحرب بين روسيا والعثمانيين، ولم تكن نتائجها في صالح العثمانيين الذين تكبدوا بخسائر فادحة، فأستصدر أمرًا من الديوان بعزل الوالي العثماني وتولى هو منصب "القانمقام" بدلًا من الوالي المخلوع في عام 1768.

بعد ذلك منع قدوم الولاة الأتراك إلى القاهرة، فلم ترسل الدولة أحدًا منهم على مدى أربع سنوات، كما أوقف إرسال الأموال المقررة سنويًا على مصر إلى الدولة العثمانية إبتداءُ من سنة 1768، في أثناء ذلك نجح في أن يسيطر على أحوال مصر، في الوجهين البحري والقبلي، وأن يقضي على الفتن وضرب بيد من حديد على الخارجين عليه في الشرقية والقليوبية والبحيرة، ثم قضى على نفوذ شيخ العرب همام بن يوسف الهواري زعيم الصعيد.

ذكاء المملوك المفضل
أثار محمد أبو الدهب إعجاب قائده الكبير بقدراته التفاوضية الماهرة في الخلاف مع ملك الصعيد شيخ العرب همام، والذي كان متوجا بشكل غير رسمي على عرش الصعيد وقبائل هوارة، علاوة على كونه داهية صعيدي صعب المراس، وكان يلوذ به المماليك الهاربين من القاهرة للإمداد بالمال والسلاح.

تحايل أبو الدهب على شيخ العرب وتواصل مع إبن عمه إسماعيل الهواري وحليفه الأقوى، وأغراه بحكم قبلي تحت ولاية علي بك الكبير، في مقابل أن يتخلى عن همام، وقد حدث بالفعل فخذل شيخ العرب همام، ليهزم وينسحب إلى النوبة ثم يموت.

خارج الحدود
لم يكتف علي بك الكبِير ببسط نفوذه وسلطانه على مصر فقط بل تطلع إلى ضم الحجاز لتأمين الحج للمصريين والمغاربة والشوام ممن يسافرون إلى الحج كل عام، وتطلع إلى إحياء مصر مع الهند بالاستيلاء على ميناء جدة، وجعله مستودعًا لتجار الهندي الشرق الأقصى فبهذه التطلعات يعيد الثروة والغنى التي فقدتها مصر جراء تحول تجارة الشرق إلى طريق الرجاء الصالح.

وإنتهز علي بك فرصة النزاع الذي دار بين اثنين من أشراف الحجاز حول الحكم، فتدخل لصالح أحدهما وأرسل حملة عسكرية يقودها محمد بِكَ أبو الذهب مملوكه المفضّل عام 1770 ميلادي إلى هناك فنجحت في مهمتها، ونودي بـعلي بك الكبير في الحرمين الشريفين سلطان مصر وخاقان البحرين، وذكر اسمه ولقبه على منابر المساجد في الحجاز كلها، كان علي بك الكبير ذكيًا إلى حد ما، ونجح في إرجاع سلطة المماليك إلى العرش مجددًا كأوّل من نجح فعليًا في الاستقلال بمصر وتوسيع الرقعة الجغرافية فيها.

وقد شجع نجاح حملة الحجاز علي بك الكبير على أن يتطلع إلى إرسال حملة إلى بلاد الشام منتهزًا سوء أحوالها وتعدد طوائفها وإستنجاد صديقه والي عكا "ظاهر العمر" به الذي نجح في أن يمد نفوذه إلى جنوب سوريا، وكان هو الآخر يسعى إلى الإستقلال عن الدولة العثمانية، وبالتوازي مع الحملات كان يعقد علي بك الكبير صفقة مع الروس ضد الدولة العثمانية، والتي كانت ذريعة بعد ذلك للأمر بقتله.

إستطاع أبو الدهب أن يبهر قائده بانتصارات هائلة فاستولى على غزة ورملة ولما اقتربت قواته من بيت المقدس خرج في إستقباله حاكمها وأعيانها ورحبوا بقدوم الحملة المصرية فدخلها دون قتال يذكر، ثم استسلمت يافا بعد حصار دام شهرين، ثم انضمت قوات الشيخ ظاهر العمر إلى القوات المصرية ففتحوا صيدا، ولم يبق أمامهما سوى دمشق فواجهها الجيش العثماني الذي لم يصمد، ودخل أبوالدهب دمشق فاتحا يونيو 1771، وباتت تحت لواء علي بك الكبير، كانت قدرات أبوالدهب مبهرة لقائده، الذي آمن بولائه، وفي الوقت الذي كان يحضر فيه علي بك الكبير لإحتفالات ضم سوريا إلى مصر، كان يضمر صاحب اللمعة الزائفة نية أخرى.

في الوقت الذي تزينت فيه القاهرة للفتح الجديد كان محمد أبو الدهب يتوقف عن الزحف ويستعد للرجوع إلى القاهرة رغبة في السيطرة على ملك مصر بإعتباره صاحب فضل في التمكين والسيطرة لعلي بك الكبير، ونجحت الدولة العثمانية في إستمالة أبوالدهب وإغرائه بحكم مصر إذا خرج على سيده وخانه، وفي هذه الأثناء إصدر السلطان العثماني فتوى من قاضي القضاة والمفتي الأعظم باعتبار علي بك ورجاله وحلفائه وأنصاره بغاة خارجين على الدولة يجب قتلهم أينما وجدوهم، وزاد من تأثير هذه الفتوى إتصال على بك الكبير بدولة مسيحية في حالة حرب مع دولة الخلافة العثمانية.

                 

حرب المملوك وقائده
عاد أبو الدهب سريعًا إلى مصر، وسحب في طريق عودته جميع الحاميات التي كان قد أقامها في البلاد المفتوحة، وبدأ يحارب علي بك الكبير نفسه، وتمرّد على قراراته، وتأكد علي بك من خيانة ولاء أبي الدهب له بعد رفضه العودة إلى فلسطين، وعجز عن إتخاذ قرار صارم ضد تابعه ومملوكه أبو الدهب الذي خرج عليه، ولم يعد هناك مفر من الصدام بين الرجلين وحاربا بعض، وبالطبع كانت الغلبة لمن يملك الجيوش كلها وهو قائد الجيوش محمد بك أبو الدهب وإضطر علي بك الكبير إلى مغادرة القاهرة، هاربا بعد مجد الإستقلال الذي كان على وشك أن يتحقق.

ثم تولي أبو الدهب زمام الأمور في مصر ونصّب نفسه شيخا للبلد، ثم أرسل يعرض على الباب العالي العثماني إعادة مصر إلى الحظيرة العثمانية، وطلب الإذن بالقضاء على ظاهر العمر "حليف علي بك الكبير"  بحجة خروجه على الدولة وتحالفه مع أعدائها الروس، لم تدم مدة حكم محمد أبو الدهب ولم يهنأ بما حصده من خيانات أو ولاء للسلطان العثماني طويلا، فعندما صدر فرمان من الباب العالي لمحمد بك أبو الدهب لمحاربة ظاهر بك العمر حليف علي بك الكبير  وتطهير الشام، قاد أبو الدهب جيشا كبيرا إلى فلسطين بمعونة الجنود المغاربة من جند «ظاهر العمر» الذين خانوه، بالرغم من أن  عثمان بك ابن ظاهر العمر لعب دورا فى معاونته ضد والده طمعا فى أن يحل محله فى ولاية صيدا.

يقال أيضا إنه بنى من رؤوس القتلى في حروبه صوامع، وأثارت فعلته في يافا الفزع في الشام، وقدم له الأمراء الطاعة والولاء، ودمر الحصون والقلاع التي بناها ظاهر العمر وأهمها قلعة «دير حنا» و «دير مار الياس»، وإنتقاما مما فعله في "ظاهر العُمر"، يحكي الجبرتي أن "العُمر" قدم رشوة للطباخ الخاص بمحمد أبو الدهب كي يضع له السم في الطعام، ليموت في فلسطين ويحمله أتباعه لدفنه بمسجده في مصر.

إقرأ أيضاً