أحد كنوز التراث الثقافي والحضاري الذي يعكس عظمة الدولة العثمانية في أوج مجدها والذي أمسي اليوم أحد المعالم السياحية الهامة في إسطنبول، يقبع بهدوء وسكينة علي ضفاف البوسفور مرحباً بزائريه وراوياً لضيوفه سطور من تاريخ مضي وذكريات حية لا تموت.
يقع قصر دولما باهتشة بالجانب الأوروبي من مضيق البوسفور بين منطقتي بيشكتاش وقباتش وقبالة فعند فتح القسطنطينية، رست سفن محمد الفاتح بهذا المكان وفي عام 1963 بعهد السلطان أحمد الأول تم ردم جزء من البحر وتحويله لحديقة. وفي عام 1740، بُني سبيل الحاج أمين آغا ثم رُدمت ساحة إضافية بمساحة 350 متر مربع بعهد عثمان الثاني حتي أمر السلطان عبد المجيد الثاني عام 1843 ببناء مسجد وقصر دولما باشا وكان عمره عشرين عاماً وكان يحمكم منذ أربع سنوات. أشرف على بناء القصر قارابيت بايلان المهندس الخاص بالسلطان وإستغرق العمل به حتى عام 1856.
بُني القصر على طراز النهضة الباروكي مع لمحات المعمار التركي بتكلفة خمسة ملايين ليرة بما يعادل بليار دولار الآن. كان السلاطين يقيمون بقصر طوب كابي وبعد تشييد هذا القصر إنتقلوا إليه بإستثناء السلطان عبد الحميد الذي بقي بقصر يلدز طيلة حياته. تُحيط المياه بالقصر من كل جانب ويترامي أمامه مسجد دولمة باشا وبرج الساعة وله تسعة مداخل منحوتة ضخمة أبرزها مدخل السلطان. أما الزوار فيدخلون من الباب الشمالي المواجه للجامع وما أن تعبر البوابة حتى تواجهك حديقة تتوسطها بحيرة صغيرة زُينت بتماثيل مغطاة بالزنبق الأبيض. أما الأشجار، فتم جلبها من الهند قبل 150 عاماً كما تتناثر بأرجاء الحديقة تماثيل لأسود بوضع الجلوس والتحفز دلالة علي القوة والبأس. ينقسم القصر من الداخل لثلاث أقسام وهي قسم الرجال والنساء والإحتفالات ويتألف من ثلاث طوابق مُتماثلة مع رصيف بحري بطول 660 متراً به درجات لدخول القصر والتوجه لقسمي الرجال والنساء وبهما 285 غرفة و43 صالون إستقبال مُزينة بلوحات لأشهرالرسامين العالميين وأثاث في غاية الفخامة.
قاعات لها تاريخ
أكبر القاعات هي قاعة السفراء الضخمة، أبوابها عالية وحمراء من الخشب الصلب وبداخلها سجادة مساحتها 88 متر مربع وتغطي جزء من الأرض وبها ساعة فريدة من الفضة مُزينة بتماثيل فضية لأسود وعقاربها عبارة عن ثعبانين من المعدن وكانت الساعة هدية من فرنسا. بكل ركن مدخنة مزينة منهما إثنتين من الفضة الخالصة. أما سقف القاعة، فزينه فنانين فرنسيين وإيطاليين وبالقاعة أيضاً ثلاث ساعات مُذهبة ومُرصعة بأحجار تركية ثمينة. أما القاعة الزرقاء، فمكان تسلية النساء فنجد السقوف والجدران مُزينة والأواني الصينية والثريا بالإضافة لثلاث شمعدانات لا تقدر بثمن وسجادتان ضخمتان وساعة حائط من الإمبراطورغيوم الثاني ومزهريات من اليابان والصين. وأخيراً، قاعة العرش وهي أجمل قاعات القصر حيث كانت تُعقد إجتماعات السلطان وتُجري الإحتفالات الرسمية وتقوم القاعة على 56 عمود من الرخام ويصل إرتفاعها إلي 36 متراً. قبة القاعة مُزينة بنقوش أشبه بقصر فرساي وهي نموذج رائع للفن الباروكي وتنيرها 750 لمبة وتتسع لأربعة آلاف فرد وتنفتح على مضيق البوسفور بباب كبير حيث كان السلطان يقف لإستقبال ضيوفه. وعند قاعدة القبة، توجد نوافذ تطل على البحر لتتمكن النساء من مشاهدة الإحتفالات. بالقاعة أيضاً ثريا لا مثيل لها بالعالم تزن 4.5 طن مُهداة من ملك روسيا بيقولا ومصنوعة من الكريستال وعندما تُضاء تبدو كشمساً بوضح النهار. أما الأرضيات، فتغطيها سجادة بمساحة 124 متر مربع مصنوعة في بلدة هركة التركية وتتم تدفئة القاعة من تحت الأرض ويلزم لتدفئتها ثلاثة أيام.
متحف ساعات دولما باهتشة
عام 2004، تم إفتتاح متحفاً لعرض مجموعة الساعات الخاصة بالقصور الوطنية التركية بمبنى الخزينة الذي تم تشييده بحديقة الحرملك بقصردولما باهتشة. ويُعد متحف ساعات قصر دولما باهتشة الأول والوحيد للساعات بتركيا ويعرض تحفاً فنية صُنِعت بأيدي محترفي الساعات المولوية العثمانية التي وصلت لأوج مجدها بالقرن التاسع عشر بجانب الماكينات الفخمة التي صنعها فنانون فرنسيون وإنجليز بالقرن الثامن والتاسع عشر. في عام 2009، أغلق المتحف لمدة عام وصدرت قرار بجرده وصيانة الساعات وإستبدال نظام العرض القديم بنظام حديث وإضافة ساعات جديدة كما تم ترميم الساعات وأُعيد فتح المتحف الذي يضم إحدى وسبعين ساعة منهم الات أوتوماتيكية موسيقية لصانع الساعات الإنجليزي الشهير جورج بريور وساعات الحائط الفرنسية المغطاة بماء الذهب والساعات الموسيقية الأوتوماتيكية والنصف أوتوماتيكية ومجموعة الساعات الألية لصانعيها المولويين محمد شكري ومحمد محسن والساعة الفلكية لسليمان لذيذ والعشرية لعثمان نوري وعدد من الساعات الالية والعالمية.
قصص الحرملك
يعرف قصر الحرملك بإسم حرمِ هومايون وهو القصر الذي يعيش به زوجات السلطان وحريمه وجواريه والسلطانة الأم. يصله دهليز ببهو المعايدة وهو على شكل حرف «L» يمتد على الساحل كبناء عمودي متوازي وله تصميم قائم بذاته وهو من المباني التي تجمع كل شيء بداخلها. يُعد الحرملك من الأماكن ذات القدسية بقصر دولما باهتشة فيُحرم على الأغراب دخولها لأن نساء القصر كُن مُسلمات ومُحجبات ولايرتدين الحجاب سوي خارج القصر مع إبعاد الرجال عنهن لتأثر السلاطين بالدين الإسلامي. قلما تتم دعوة ساكني الحرملك لمناسبة خارج القصر بل يظل الحرملك هو المدينة المحرمة فنجد جناح السلطانة الأم والجواري والهوانم بقصر دولما باهتشة جنبا إلى جنب. بجناح السلطانة الأم، هناك ردهة للطعام وغرفة للضيوف وغرفة نوم ودورة مياة وغرفة مؤنة ومطبخ. وتقوم رئيسة الخدم ويتم إختيارها من سيدات مشهود لهن بالإخلاص والأمانة بمباشرة أعمال السلطانة الأم خارج القصر. وهناك مدرسة لتعليم النساء وهي جناح كبير تعكس المقارئ والأماكن ذات الشبيكة واللغات الأجنبية التي يتم تدريسها والعلوم المعاصرة والطاولات تطور التعليم الديني وتعكس غرفة الموسيقى بالطابق العلوي التأثير الغربي للقرن التاسع عشر على القصر. لا يمل زائر القصر الطواف بجو أخاذ من الأبهة ويخرج مُغادراً عالم الأساطير وكانت يوماً واقعاً ملموساً.