ظلوا يرددون على مسامعنا تلك المقولة التي من شدة الإصرارعلى تكرارها أصبحت عنوان العصر وتعريفه، العالم بين يديك، البعيد أمسى قريباً بفضل تطور التكنولوجيا الحديثة، الوصول للصين أسهل من اختراق الطريق للجانب الآخر والتخاطب مع النصف الآخر من الكرة الأرضية أسرع من التحدث مع صديق عبر المحمول المحلي. نعم، أصبح العالم اليوم قرية صغيرة، مدينة واحدة تربطها خيوط رفيعة تحيط بكرتنا الأرضية وتجعلنا جميعاً -علي تباعد المسافات- بإتصال دائم وتواصل مستمر.

سعدنا بالفكرة فب البداية واستفدنا منها، صناعات كاملة قامت عليها، أبواب رزق أمام أصحابها إذ أصبح تداول المعلومات أسرع وأسهل وصفقات أعالي البحار أكثر شيوعاً فالإنترنت قرب المسافات وجعل الغريب قريباً وأوجد للوحيد أليفاً وللعاطل مهنة وللباحث مراجع وللفراغ سلوى تلهمنا وتشغل الغالبية العظمى من أوقاتنا. إلتهم وحش العصر عقولنا وسلبنا الجانب الأكبر من حريتنا وسيطر علي قلوبنا ونفوسنا وتغلغل بأدق تفاصيل حياتنا دون وعي بسطوته العارمة وهيمنته التي تزداد حدة يوماً بعد يوم فقد أصبح كل شيء وأس شيء، الاحتياجات اليومية، تنظيم العطلات، حسابات البنوك، عقارات جديدة، مدارس الأولاد وآخر أخبار المصايف، فواتير الموبايل، حركة البورصة، أخبار المال والأعمال ناهيك عن أخبار العالم وتحركات البيزنس ومراسلات الشركات وأحاديث الأصدقاء ولما إنضمت إليه مواقع التواصل الإجتماعي وقعنا في الخية وكانت نهاية المطاف.

تغير المثل القديم «البعيد عن العين.. بعيد عن القلب» بفضل تقنيات العلم الحديث التي جعلت من العالم بأسره «قرية صغيرة».. لهذه الدرجة ـ بل أكثر منها- تغلغل الإنترنت بجوف تفاصيل اليوم لندرك مع انقطاعه كم أصبحنا في اعتماد كلي عليه وكم أصبحت تلك الخدمة الإضافية ركيزة محورية بحياتنا اليومية ودعامة رئيسية لا نعيش بدونها ولا نتفاعل مع العالم الخارجي في غيابها وكأن الحياة بأسرها أسيرة جهاز صغير محمول تدلف منه لعالم ساحر بعيد فتتواصل أينما كنت مع كل ما تحب وتحصل علي ما ترغب وكل ما تريد. نعمنا بإيجابياتها وأوليناها حقها في التقدير فأصبحنا أسرى لها وعبيداً أوفياء بمحرابها لنصحو ذات صباح علي الفجيعة الكبرى.

انقطع الإنترنت وكعادة مدينتنا الصغيرة، امتلأت بالشائعات، إنقطع النت، وكيف؟؟ ولماذا؟؟ وإلي متى؟؟ قال البعض انقطع النت نتيجة تأثر الكابل الرئيسي المحيط بالكرة الأرضية فيما قال آخرون «ياجماعة المشكلة أكبر فالمصيبة عامة وحلت علي العالم بأكمله.. الحمد لله.. لسنا وحدنا». وكأن الهدف التنصل من تهمة الوحدوية والإطمئنان على كوننا لسنا وحدنا فى التعامل مع الكارثة بل هناك من يشاركنا بها، التصريحات الرسمية لا تطمئن بسرعة الحل والأعمال تتراكم وتتعطل وقلب المدينة يصاب بشلل يتزايد وبشائره السلبية تزداد ساعة بعد الأخري فالأنظمة جميعها تعتمد علي تلك الشبكة الصغيرة التي تجمعنا جميعاً، تعددت الأسباب والمصيبة واحدة والسؤال.. ماذا بعد؟؟

شعرت كالكثيرين بالشلل وعدم القدرة علي التركيز فالمشاكل تتراكم كل ساعة في غياب النت، العمل يعتمد بصورة أساسية علي التواصل مع العالم الخارجي القريب والبعيد والوسائل التقليدية القديمة في التواصل لن تفي بالغرض المطلوب في الوقت المحدد فلا شيء ينافس النت في قدرته الفائقة علي تداول المعلومات ونقل المستندات والبيانات بسرعة وسهولة ويسر، شبكات الربط بين الأجهزة داخل أزقة العمل توقفت تماماً معلنة بدورها التمرد علي غياب النت الذي تعتمد عليه كلية. أما المعاملات الخارجية فحدث ولا حرج، لا مجال للتواصل مع ذلك العالم البعيد يخالفنا في التوقيت بساعات تحول دون إنجاز العمل بالتوقيت المناسب، وكيف التخاطب معهم ونهارنا لديهم ليل ونهارهم ليلنا الطويل.

والحل البديل.. لا يوجد فلا تلوح فى الأفق بوادر حلول بديلة فالأصل فى اعتمادنا كلياً وجزءياً علي ذلك الكابل الصغير الذي يصلنا بالعالم من حولنا. ولأن عملي يعتمد كالكثيرين علي التواصل الدائم، تراءت لي فكرة قد تبدو معقدة بعض الشيء لكنها بدت لي أحد الحلول المنطقية لتلك الكارثة المدوية. ولم لا؟ سارعت بالاتصال بأخي المقيم بالعاصمة الأردنية لمساعدتي في الدخول للموقع الإلكتروني الخاص بي وطباعة ما يحويه من أوراق عاجلة وإرسالها بالفاكس لأفاجأ بالطامة الكبري فهناك أيضاً توقفت الإنترنت فالكابل الذي يجمعنا جميعاً أصيب بالشلل وتعطل لتختفي معه آمالنا في حلول قريبة وعلينا الانتظار لأيام أو أسابيع لا ندري فالمشكلة كبيرة والحل حاضر لكنه بعيد أو علي الأقل يستلزم بعض الوقت لإستحضاره ومرت الساعات بطيئة وطويلة ومملة.

ومن جوف يأسي العارم، بدت لي الفكرة ذاتها أو قل الحل الوحيد، فلنعود سنوات للوراء ولنسلك مسلكنا القديم مستحضرين ذكري وسائل الاإصال التقليدية التي هجرناها فلا سبيل غيرها. نحمد الله أن الهاتف الأرضى لا يزال محتفظاً بكبريائه وأن الموبايل لا يزال في صحة جيدة ولم يندثر بظهور وسائل فاقته سرعة وحيوية وكفاءة، وشكر الرب أن وهبنا القدرة الخفية علي استرجاع الصورة القديمة التي مضي عليها الزمن ونسيناها لسنوات طويلة، عادت للمستندات الورقية قيمتها وإستعاد الهاتف حيويته ونشاطه وبدأنا فى مزاولة الأعمال ببطء لا يخلو من الكفاءة والأداء العالي أو علي أقل تقدير المستقر برغم غياب النت.

أصبحنا في عزلة عن العالم فمنحتنا عزلتنا الوقت لنتواصل مع أنفسنا عوضاً عن ضجيج يحيط بنا من كل مكان، انقطع اتصالنا بالأصدقاء علي الفيسبوك لنعاود الإتصالات الهاتفية التقليدية. ومع انفرادنا بأنفسنا، اكتشفنا كثير من الحقائق الغائبة، كم هو جميل أن تجلس مع ذاتك تتأمل ما حولك في هدوء، كم مثمر أن تمنح لنفسك فسحة من الوقت تراجع فيها حساباتك وتعيد ترتيب أوراقك وأولوياتك ومفردات أيام تمضي من حولك وكم هو مبهج أن تجد الوقت الكافي لتتأمل جمال الكون المحيط، حقيقة أخري تتراءي أمام أعيننا هي قدرة الخالق وهيمنته علي عالم من صنعه نسي ساكنوه جبروت الخالق بما يفوق قدرة البشر المحدودة علي اتساعها، القاصرة علي تشعبها والسجينة علي حريتها الظاهرية المترامية.

إنقطعت الإنترنت بفعل ريح سخرها خالقها علي البشر وأرسلتها العناية الإلهية ومعها رسالة خفية لمن نسى الله في زحمة الأيام وتجاهل قدرته مستعيضاً عنها بآلات حديدية وماكينات حديثة وتقنيات مستحدثة افترضنا فيها السعادة المطلقة والخلود وهي في الأصل كل الشقاء وأصل الفناء.

إقرأ أيضاً

أحدث المقالات

إعلن معنا

  • Thumb

الأكثر قراءة

فيسبوك

إنستجرام