عجبت لك يا زمن تبدلت فيه كل الصور والأشكال والمعاني وبقي العقل علي جموده وشاكلته المعهودة لم يتغير بتغير العالم من حوله.. عجبت لزمن نحياه جميعاً، نستمتع بتفاصيله الظاهرية وتعجز عقولنا القاصرة عن إستيعاب المغزي الخفي والمعني الحقيقي لذلك التطور العجيب الذي يحيط بنا ويتحكم فينا ويلقي بظلاله وشباكه علينا يوماً بعد يوم.
مدينتي الصغيرة تغيرت، تبدلت ملامحها، دكان البقالة أصبح هايبر ماركت وصالون الحلاقة تحول بدوره لبيوتي سنتر، المقهي أصبح كوفي شوب والمصيف أطلقنا عليه ريزورت ومحل الإقامة حمل بدوره لقب الهاوس، امتلأت الطرقات بضجيج السيارات الفارهة والمقاهي والمطاعم العالمية الشهيرة علت لافتاتها أرجاء الأزقة الضيقة، ملابسنا أصبحت أكثر رفاهية وطبعاً مستوردة من ماركات عالمية سمعنا عنها أو وفدت إلينا دون كامل دراية منا لوجودها في الأصل وهان القرش علي صاحبه أمام إغراءات المدنية الحديثة فأمسي الكريدت كارد الحل الأوحد وما أكثر كمالياتها التي أصبحت أساسيات لا غني عنها.
تعالت لافتات الطرق بما تحوي من رسائل إعلانية ودعاية لكل المنتجات فأضاءت بأنوارها ليل المدينة الساهرة التي أمسي سكانها خفافيش تبدأ حياتهم فيما بعد منتصف الليل، لم نعد نميز البنت من الولد فحلقت الفتيات شعورهن على الزيرو وانطلقن بالجينز والقميص الرجالي وتأنق الفتيان بأقراط ذهبية تتدلي من الآذان مما يثير الحسرة والأسي في القلوب قبل العيون، مفاهيم كثيرة اختلفت أو قل اختلت وأمسي الصواب والخطأ البين مسألة نسبية بحتة تختلف من منزل لآخر ومن عائلة لأخري وتتباين بين سكان الجدران الواحدة فما أراه أبيض اللون ناصع البياض قد تراه بنياً والعكس صحيح وما يبدو لك بريق نهار يمسي لغيرك حلكة ليل دامس. علاقاتنا الاجتماعية أصابها التغيير ذاته، أصبحنا أكثر جرأة وانفتاحاً وحرية وأكثر تباعداً واستقلالية وفرقة، أصولنا الثابتة تخلخلت ومبادئنا العتيدة أمست بين شقي الرحي وكفتي الميزان إذ هي في الأصل تتبدل يوماً بعد يوم، الأرض الصلبة أمست وهناً وسراباً وذكري نحملها بين الضلوع الحائرة والأفئدة المشردة فننوء بحملنا ونلقيه جانباً علي قارعة الطريق.
ولأنني من جيل الوسط الحائر، أشعر بالمأساة الحقيقية التي نحياها وذلك الصراع القوي الذي يأخذنا بتلابيبه فآباؤنا علي الأرض راسخون وأبناؤنا إلي حياة أخري ينطلقون ونحن في الوسط حائرون فلا ظللنا علي عهدنا ولا تطورنا بأفكارنا وعقائدنا وتقاليدنا!! مظاهر حياتنا تبدلت. يمتلك كل منا سيارة فارهة أو أكثر ويشغل منصباً رفيعاً يشار إليه بالبنان وطبعاً راتب ضخم في نهاية الشهر أو عمل خاص يأخذ منك العمر ويقايضك بكثير من السلطة والسطوة والمال الوفير. في عصر الخصخصة، الفرصة متاحة أمام الجميع وسوق العمل مفتوحة والعرض والطلب يتوقف علي مريديه، سن الزواج تأخر وما حاجتنا إليه ومزيد من الضغوط والالتزامات فالأساس فيه شركة قوامها إلتحام العقل والقلب معاً وقدر قليل من التنازلات. ولأن العقل والقلب لا يلتقيان، زادت العنوسة بين الرجل والمرأة علي حد سواء.
إجازات طويلة نمضيها علي رمال الساحل صيفاً وفي أحضان السخنة شتاء، مهم جداً الويك إند وكيف الحياة بدون رحلة الشتاء والصيف. إستحدثنا كثير من المفاهيم الغربية، تناثرت الحروف الأجنبية بين مفردات لغتنا العربية الآخذة في الاندثار وكأنها عار علينا محوه والتخلي عنه قدر المستطاع، أصبح السوشي طبقنا المفضل.. كيف؟؟ ألا تحب السوشي؟؟ وكيف ذلك!! عليك تناوله أو علي الأقل التظاهر بذلك لتحتفظ لنفسك بتلك المكانة الاجتماعية المميزة والرفيعة لأكلة السوشي وأكلات الشرق الأقصي التي أمست –علي غرابتها وحداثة عهدنا بها- أحد معالم المدنية الحديثة ومظهراً أساسياً للترف والرفاهية فمطاعم السوشي في كل مكان ومحبوه أو علي الأقل مرتادوه في ازدياد مستمر.
والهوايات والرياضات، حدث ولا حرج وأساسي طبعاً الجولف، وكيف لا تجيده أو تبذل مجهوداً في التمرن عليه.. أساسي للأرستقراطية الحالية وعلامة بارزة للترف والرفاهية، ملاعب الجولف أحاطت بالقصور الفارهة ومحاله ومستلزماته انتشرت في كل مكان فيما تحولت ملاعبه لاجتماعات عمل ولقاء مثالي للأصدقاء من الطبقة الراقية أو علي الأقل التظاهر بذلك.. شربنا الكابتشينو وأصبح مشروبنا المفضل بعدما كنا بالكاد نتذوق النسكافيه واستبدلنا موسيقانا الشرقية بالراي والبلوز والتكنو والجاز وحدث ولا حرج والكل سعيد بذلك التحول الزائف والمظاهر الزائلة.. جيلنا مظلوم وسط خضم تلك الأحداث العارمة التي أطاحت باستقراره وهدوئه.. الأم تائهة بين مثال الأم -التي هي اليوم جدة من العهد البائد- ومتطلبات طفلة صغيرة لم تختر المدرسة الدولية ولا شواطيء الساحل ولا أحدث صيحات المحمول وخطوط الموضة العالمية والأب حائر بين حلم سي السيد وتلك الشخصية الجديدة التي تمليها عليه رغبته في التحرر ومزيد من الانطلاق والفجوة تتسع بين الأجيال وصراع الحضارات قادم لا محال بين جيل يندثر علي حياة عينه وآخر يتوه بين المتناقضات وجيل ناشيء غريب علي أرضه تائه وسط أهله واستثنائي في كل الأحوال.
منازلنا الهادئة تحولت لحلبة صراع مستمر بين عقول تفتحت علي الإنترنت وأخري لا تزال تناقش قضية الاختلاط بين الفتيان والفتيات في الجامعات، الحديث يتهم القديم بالرجعية والتخلف والقديم يكيل للجديد سهام الانحلال والتدني والانحطاط ونتيجة حتمية في صراع لا ينتهي أو قل لم نر نهايته بعد والأساس في حيرة جيل الوسط، تلك الهوة السحيقة بين التربية المحافظة أو المعتدلة التي نشأنا عليها صغاراً وبين الانفتاح الكبير الذي يحياه أولادنا صغاراً، بيني وأمي وابنتي وأعني بجيلي من جيل الوسط آباء وأمهات بأربعينيات العمر منهم من أبقي علي مفاهيمه التقليدية وانزوي بعيداً ومنهم من ألقي بنفسه في أحضان المباديء المستحدثة الجديدة وعاش بها وتأقلم عليها والغالبية لا تزال قابعة في ذلك الوسط، تائهة بمفترق الطرق، يأخذها التيار يميناً وشمالاً فلا أرض صلبة ولا مرسي آمن للسفينة الحائرة ولا ربان حكيم يقود الدفة ولا ذخيرة كافية من قيم وأسس تتبدل يوماً بعد يوم.
وللحق، استوردنا قشور الحضارات وكثيراً من مفاهيمها الظاهرية، ألواناً بدت لنا أصيلة وهي في الأصل مجرد ألوان، استوردنا ملابس مترفة وأكلات غريبة ورياضات أغرب فالقهوة أمريكاني والاسبرسو إيطالي والستيك مشوى علي الطريقة المكسيكية والآيس كريم استرالي والموسيقي مزيج من الطبل الأفريقي والألحان الهندية وعجزنا عن دمج المظاهر بالأساس الراسخ لتنميه وتقويه وتبني عليه، فرحنا بالظاهر وغفلنا حقيقة أنه وحده يخلخل الباطن من أساسه وعندما أكلنا السوشي ونسينا الملوخية، ما استطعمنا السوشي ولا احتفظنا بالملوخية بل أصبح طعامنا كحالنا ماسخ اللون لا يسر الناظرين، تلعثمت علي شفاهنا مزيج من حروف فرنسية المنشأ أو إنجليزية أو ألمانية.. لا يهم.. فتهنا إذ نسينا أن الكلمة الواحدة لا تحتمل أكثر من لغة والمدلول لا يصح التعبير عنه بأكثر من وسيلة، رفضنا جيل الآباء برمته واستنكرنا كل ما يأتي به الأبناء فلا صعدنا ولا هبطنا ولا حصلنا اليمين ولا اليسار بل ظللنا نتوه مراراً في دائرة اللاموقف واللاقرار واللامبدأ واللاحدود.
ومع اتساع المتاهة كذبنا وادعينا الصدق، خنا وادعينا الوفاء، سرقنا وادعينا الأمانة وتفوقت هفواتنا علي محاسننا والأساس ليس في العودة للخلف أو التقدم للأمام بل في دائرة الوسطية المفقودة.. تلك الدائرة التي تهبنا اعتدالاً واستقراراً يمنحنا –بدوره- تلك الأرض الصلبة. الأساس ليس في التحول يميناً أو يساراً وكائن ممسوخ ولا في الاحتفاظ بعقلية عقيمة متحجرة لا تتغير بل في التطور التدريجي واستحداث ما نفتقر إليه والبعد عما يهين العقل والقلب والروح في زمن العولمة والإنترنت والهاي تك والمحمول، ليس من المنطق في شيء أن نربي أولادنا كما تربينا علي تقاليد زمن ولي وليس من الصواب أيضاً الاندفاع الأحمق وراء مظاهر براقة تحوي في باطنها كل التدهور والتفكك والانحطاط والانكسار.
الاعتدال هو الحل، نعم هو الحل الأمثل والوحيد والبديل، قد نستسيغ السوشي إذا ما أعجبنا مذاقه ولا ندعي ما لا يروق لنا الإقبال عليه، قد نلعب الجولف إذا منحنا المتعة والمرح وليس التظاهر به، قد نسكن القصور خارج العاصمة إذا ما طلبنا الراحة والهدوء وقد نعدو في سيارات فارهة إذا ما توفرت لنا الإمكانات اللازمة، قد نسافر للغرب ونعود شرقيين كما كنا، نشرب الكابتشينو والقهوة السادة عند اللزوم، يروق لنا الستيك المشوي والمخ والفتة والفول بالزيت الحار وصحن الطماطم بالجبن المالح. الأساس ألا ننسي جذر الشجرة العتيدة، الأصل والمنشأ وتلك الأرض الصلبة فلننميها بدلاً من أن نمحوها ولنشد من أزرها بدلاً من أن نطمسها ولنجعل منها حجر الأساس ونقطة الانطلاقة والحد الفاصل لتحول مطلوب وصحي وأساسي لاستمرار الكون.
فلا الزمان سيظل هو الزمان ولا المكان باق علي عهده أبد الدهر بل هو في تحول دائم ومستمر ولا الحياة قابلة للسكون فهي تركض دوماً للأمام.. ولنجعل من عقارب الساعة بداية جديدة ويوماً جديداً وحياة جديدة وكثيراً من التطور بذلك الجذر الثابت وتلك الأرض الصلبة.